قبل عام 2010 كانت الحكومة في دمشق، تتحدث عن وصول البلاد إلى الاكتفاء الذاتي، إلى جانب أنها كانت تطلق الوعود المتعلقة بتطوير الاقتصاد وتحسين دخل الفرد، رغم انتشار الفساد الحكومي في كل مؤسسات الدولة.

 بيد أن العواصف الاقتصادية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة أظهرت عجز حكومي غير مسبوق، في وقت تبرر فيه دمشق هذه العواصف بما جرى في 2011 من احتجاجات ضد السلطة الحاكمة، فهل فعلا كانت هذه الاحتجاجات هي أبرز أسباب انهيار الاقتصاد السوري.

موقع “الحل نت” ناقش العديد من القضايا المتعلقة بمراحل وأسباب انهيار الاقتصاد السوري، ضمن حوار خاص مع الباحث الاقتصادي السوري الدكتور أسامة القاضي، والذي يرى أن النهضة الاقتصادية التي تحدثت عنها الحكومة قبل عام 2011، غير ممكنة بسبب الفساد المنتشر.

مرحلة خطرة

فيما يعتقد أيضا أن سوريا تواجه اليوم مرحلة شديدة الخطورة بسبب السياسات الاقتصادية للحكومة وانقسام البلاد لعدة جغرافيات اقتصادية، فضلا عن تسليم ما تبقى من الاقتصاد إلى كل من روسيا وإيران.

وحول إعلانات حكومة دمشق المتعلقة بالوصول إلى الاكتفاء الذاتي قبل أكثر من 11 عاما، أشار القاضي خلال الحوار الخاص، أنه كان لسوريا حد أدنى من الاكتفاء الذاتي الغذائي والدوائي والنفطي، إذ كانت تنتج 340 ألف برميل من النفط، ويتم استهلاك 240 ألف منهم.

كذلك كان إنتاج القمح يبلغ 4 مليون طن سنويا، بنسبة استهلاك لا تتجاوز 75بالمئة، كما وصف القاضي الاكتفاء الذاتي المتعلق بالأدوية بـ“المقبول“، نظرا لنسبة إنتاج معامل الأدوية في سوريا.

القاضي قال في حديثه، “كانت سوريا مجهزة بأن تنهض بشكل أكثر بكثير مما كانت هي عليه، المشكلة كانت بمستوى الفساد المنتشر، وغياب سيادة القانون، وهذا كان يعطل كل الاستثمارات حتى الوطنية من المغتربين، فضلا عن العربية والأجنبية“.

القاضي رأى كذلك أن الشركات القابضة، “قبضت على عنق الاقتصاد السوري منذ تلك الفترة“، وبدل أن تستفيد سوريا قبل 2011، من أكثر من 1200 مرسوم تشريعي من أجل تحرير الاقتصاد وحوكمته بشكل حقيقي كان هناك فساد كبير جدا في إدارة الاقتصاد من ناحية، ومشكلة في إعادة توزيع الدخل من ناحية أخرى.

تراجع النمو الاقتصاد ليس بجديد على سوريا، ففي عام 2004 كان أكثر من 30 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وكان هناك مليون عاطل عن العمل في البلاد، “وهذا كان ممكن تجاوزه بسهولة لو كان هناك إطار من الحكم الرشيد يسود الاقتصاد، لكن للأسف كان هناك تقديم لمصلحة الطبقة الفاسدة على المجتمع“.

خلال العقدين الماضيين، كانت رؤوس السلطة الحاكمة في سوريا يمسكون بمفاصل الاقتصاد السوري، وهي السياسة التي أدت بحسب القاضي إلى وصول نسبة الفقر في سوريا إلى نحو 50 بالمئة، حتى قبل انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضد السلطات في دمشق آذار/مارس 2011.

للاستدلال على ذلك أشار القاضي، إلى وصول نسب الأبنية العشوائية في سوريا إلى النصف تقريبا، فضلا عن الأبنية المنظمة نوعا ما، لكنها تكون بطبيعة الحال غير مسجلة وغير قانونية.

بل إن القاضي رأى أن الوضع الاقتصادي قبل 2011، كان من أحد أبرز أسباب اندلاع الاحتجاجات وليس العكس، حيث أن كَبت الحريات والفساد المنتشر في العقد الأول من القرن الحالي، أدى بالطبع إلى ظهور طبقة من الأثرياء، ذلك ما كان سببا لخروج السوريين للمطالبة بعدالة أكبر.

الاحتقان الاقتصادي

حول هذا الملف أوضح قائلا، “طبعا الشرارة كانت تتعلق بإهدار كرامة شخص أو شخصين، أو أَسر مجموعة من الأطفال، لكن المسألة كانت لها جذر اقتصادي عميق، عمره أكثر من 50 سنة، هذا الاحتقان الاقتصادي الشعبي كان واحدا من أسباب الثورة“.

القاضي وصف جغرافية الاقتصاد السوري بأنها مقسمة إلى العديد من المناطق الاقتصادية “بشكل مرعب“، ذلك يعني بأن كل منطقة نفوذ تحاول أن تستقل باقتصادها عن الأخرى، فنقل شحنة من البندورة من إدلب إلى حمص مثلا، قد تكون بمثابة تهمة تعاقب عليها “هيئة تحرير الشام” الحاكمة للمحافظة الشمالية الغربية.

أوضح بهذا الشأن قائلا، “المشكلة ضمن هذا التشظي الاقتصادي المرعب، أنه لدينا تعامل بأكثر من عملة على هذه الأرض على جغرافيا مساحتها 186 ألف كيلو متر مربع، وهذا مرعب أيضا، كذلك الثروات تقاسمتها مناطق النفوذ، وطبعا لا تحسن استخدامها بحيث توزع على كل سوريا“.

 النفط على سبيل المثال، لا يُستثمر بشكل سليم ولا يوزع على السوريين، بل يستثمر بشكل بدائي ويضر بالبيئة بطريقة بدائية، وهذا أثره سيكون لسنوات وربما لعقود، فضلا عن التهريب والفساد، في ظل غياب الرقابة عن مناطق الشمال والشمال الغربي، التي تشهد انتشار فصائل عديدة دون أدنى وجود لجهات الرقابة، ما يسمح بالقيام بعمليات التهريب بكميات مهولة وتصل ربما إلى تهريب الممنوعات.

القاضي تحدث عن الوضع الاقتصادي في شمالي وشمال غربي سوريا، وقال “مناطق الشمال الغربي فيها مشاكل إدارية وفساد، وفيها إدارة ميليشيات ولا يوجد فيها إدارة حقيقية، الحكومة المؤقتة التي هي جزء من الائتلاف، لا حول لها ولا قوة وليس لها موازنات أصلا وهي غير حاكمة عمليا على هذا الارض، الحاكم الفعلي هو الوالي التركي الموجود وقائم المقام التركي الموجود والفصائل تتعامل معه وقد يعني الفساد قد يصل إلى أن يعم الجميع“.

أما “هيئة تحرير الشام” في إدلب وما حولها، فهي مصنّفة على قوائم الإرهاب ولا يمكن التعامل معها، وبطبيعة الحال لا يوجد هناك شفافية، لا في إدارتها للمعابر ولا كيف تُدار المعابر وحجم البضائع التي تدخل وتخرج الى تلك المناطق، ولا كيف تُصرف الأموال.

بالعودة إلى مناطق سيطرة الحكومة المركزية في دمشق، فبالتأكيد هي تعاني أسوأ حالاتها المالية والاقتصادية، وفيما إذا تحدثنا عن المعابر، فقد تحوّل معبر “نصيب” في الجنوب مع الأردن، إلى ممر رئيسي لتهريب المخدرات.

القاضي أوضح في سياق الأوضاع الاقتصادية هناك، “معبر نصيب صار معبر كبتاجون، سوريا للأسف تحولت من عاصمة الأمويين الى عاصمة الكبتاجون في العالم، والأردن يستجير بالعالم من معبر نصيب والكم الهائل من ملايين حبوب الكبتاجون والممنوعات التي تدخل عن طريق المعبر وتذهب الى الخليج والى اليونان أحيانا، المشكلة كبيرة جدا وهناك الفقر ربما تتجاوز نسبته 90 بالمئة“.

دور الحكومة بانهيار

القاضي رأى كذلك أن الحكومة ساهمت بانهيار الاقتصاد السوري، عَبر رهن قطاعات مختلفة، ليس أبرزها النفطية والثروات الباطنية، إلى كل من إيران وروسيا، عبر عقود وقّعتها مع الجانبين، فضلا عن الديون الإيرانية والروسية، ذلك ما سيسبب بانهيار الاقتصاد لعقود طويلة قادمة.

هناك توجّه بارز مؤخرا بتخفيف الدعم الحكومي، حيث تم سحبه من شرائح متعددة من السوريين، هل هذه الخطوة فعلا تخفف من الأعباء الاقتصادية على مؤسسات الدولة، وهل يكون توجه دمشق نحو تحرير وخصخصة الاقتصاد السوري هو حل مناسب في الفترة المقبلة، وفي ظل الأوضاع الحالية هل يجب أن تتحول سوريا إلى اقتصاد السوق الاجتماعي.

خلال الحوار مع القاضي، تحدث عن محاولات خصخصة الاقتصاد السوري، وتحول سوريا إلى سوق اجتماعي، حيث أكد أن المشكلة ليست في اقتصاد السوق، فهذا السوق يرتكز على ركيزة أساسية وهي عدم الاحتكار، لكن في سوريا الاحتكار موجود منذ اللحظة الاولى لتسلم حزب “البعث” للسلطة وخاصة زمن الرئيس الحالي بشار الأسد، فكان هناك احتكار لرامي مخلوف وللقصر الجمهوري، في مفاصل الاقتصاد، من خلال الشركات القابضة“.

رفع الدعم

خلال السنوات الأخيرة برزت في سوريا سياسة رفع الدعم الحكومي عن فئات واسعة من المجتمع، وذلك في إطار جهود لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن مؤسسات الدولة، لكن القاضي أشار إلى أن هذا التوجّه ليس بجديد، فالحكومة لديها خطة منذ أكثر من 10 سنوات، للتخلي عن الدعم الحكومي المقدَّم للمواطنين.

القاضي أوضح أن أحد أبرز المشكلات الاقتصادية للدعم الحكومي، لا تتعلق برفع الدعم نفسه، وإنما بمقياس التضخم الذي يرتفع بشكل دوري.

أوضح ذلك قائلا “رفع الدعم ليس سيء دائما، احيانا في كل مرة ينسحب الدعم من قِبل الحكومات الاقتصادية في النظام السوري كانت الأسعار تنخفض، المشكلة أن هناك سوريا موزعة، موزعة المرافئ كان مثلا مرفأ طرطوس من حصة جميل الأسد، وكان الحديد من حصة فلان وحصة الإسمنت لفلان لا يجوز استيراد هذه المادة لأنها من حصة فلان“.

بالتالي فإن سحب الدعم الحكومي هو أمر مخطط له منذ زمن، فتوزيع الثروات كان يتم على قمم الفساد في البلاد، لذلك انهارت أوضاع الموازنات خلال السنوات الأخيرة، فلم تعُد هناك حتى أي موارد لهذه الموازنات، فأصبحت الحكومة تعتمد على تجارة المخدرات والتهريب من المعاير.

القاضي قلل من تأثير القرارات الحكومية لمواجهة الأزمات الاقتصادية، إذ اعتبر أن قرار حظر التعامل بغير الليرة السورية، بمثابة “انتحار اقتصادي“، لا سيما وأن شركات الصرافة التي تم إغلاقها كانت تُدخل كميات كبيرة من العملات الأجنبية عبر الحوالات، وبشكل أخص من السوريين المقيمين خارج سوريا، ما زاد في تعطيل عجلة النمو الاقتصادي.

وعن قرارات زيادة الرواتب الدورية، أوضح القاضي أن هذه القرارات تكاد تكون منعدمة التأثير، خاصة أنها تتزامن مع ارتفاع نسبة التضخم، وبالتالي فإن أي زيادة في الرواتب ستعني بالضرورة زيادة أعلى في أسعار السلع والخدمات، لأنه لا يوجد حجم سلع وخدمات كافية للسوريين في الداخل.

الحكومة السورية عمدت مؤخرا إلى بيع سندات الخزينة، في محاولة لتغطية العجز المالي في الموازنات، فطرحت الحكومة سندات وأذونات خزينة للتداول في بورصة دمشق، قبل أشهر بقيمة وصلت إلى 300 مليار ليرة.

القاضي علق على هذه الإجراءات بالقول، “سندات الخزينة لا تحل أزمة على الإطلاق في الشأن السوري، لأن سندات الخزينة مع التضخم لا قيمة لها، لا يوجد أي مستثمر على وجه الكوكب لديه عقل يستثمر في سندات خزينة، التضخم فيها يصل الى 1000 بالمئة، لو أن مستثمر اشترى سندات خزينة عام 2020 بمليار ليرة سورية يخسر 200 ألف دولار بعد عام، بسبب التضخم، ولا يربح أبدا“.

خلاصة واستنتاج

حول ادعاءات الحكومة بأن ارتفاع الأسعار مرتبط بشكل مباشر وطردي بارتفاع الأسعار في العالم، أشار الباحث الاقتصادي إلى أن الوضع السوري مختلف، ولا يرتبط بشكل مباشر مع الأزمات العالمية.

حيث وضّح ذلك قائلا، “الوضع العالمي أكيد هناك تضخم، في حال الاستيراد الكبير من الخارج، نستورد حتى ارتفاع الأسعار أو ما يسمى تضخم المستورد من العالم، لكن في الشأن السوري اصلا لا يوجد هناك قطع أجنبي حتى تستورد الكثير من المواد الاولية، الوضع سيكون أسوأ، وأسوأ يعني حتى معنى البطالة لم يعد لها معنى في سوريا أساسا، رئيس الوزراء بالمرسوم التشريعي راتبه 240 ألف ليرة سورية تقريبا، وهو أقل من خمسين دولار وهو بالمعايير الدولية تحت خط الفقر“.

 أما بالنسبة للطبقة الوسطى في سوريا، فبدأت تختفي منذ عام 2007، حيث بدأنا نفقد 9 بالمئة منها، وازداد ذوبان فناء هذه الطبقة الآن، مع وجود طبقتين في سوريا، طبقة فقيرة وطبقة متقعة الفقر، بينما هناك أقل من 3 بالمئة، هي طبقة الأثرياء.

القاضي ختم حديثه بالتأكيد على أن الاقتصاد السوري في طريقه إلى مزيد من الانهيارات، لأسباب عديدة أبرزها عشرات العقود الموقّعة بين حكومة دمشق وكل من روسيا وإيران.

حول ذلك أضاف، “نحن نعلم المشاريع التي، أُعلن عنها والتي تم تسريبها، هناك مذكّرات تفاهم وعقود مع إيران وروسيا، لا يعلم حجمها إلى الآن أحد من الخبراء. لذلك الحقيقة، حجم الخسارات واستلاب الاقتصاد السوري بشكل كبير ومذهل قد يُذهل السوريين حجمه بعد أن تنقشع الكارثة“.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.