اسمها لوحده نبذة تعريفية عنها. قاصة وروائية وسيناريست وصحافية ومترجمة وأكاديمية وناشطة حقوقية، لكنها كاتبة أولا وأخيرا. هي البروفيسور في كلية الإعلام بجامعة بغداد إرادة الجبوري.

منذ طفولتها كانت مختلفة، تختلط مع المختلفين وتصادقهم. حقوق الإنسان والحريات من أولوياتها بالفطرة وبلا شعور آنذاك. بدأت مدافعتها ومناصرتها الحقوقية بوقوفها مع صديقتها “ثورة” ضد التنمر الذي كان يطالها؛ كونها طفلة “بدينة” وقتئذ.

جدل بين التكرلي وكريدي

بعد 5 عقود من العطاء والعيش في الحياة بأيامها المرة والحلوة، إرادة الجبوري اليوم هي نفسها إرادة الطفلة، لكن الفرق هو في الإدراك الذي ترسّخ عندها منذ صباها، واستمرت بالنضوج الفكري بلا حدود. مع كل يوم ثمة نضوج جديد.

الجبوري تقول لـ “الحل نت”، إن أول نص كتبته لم يكن يتجاوز عمرها 8 سنوات. كان طريقة احتجاج على عنف مورس بحقّها عندما ضربتها أمها هي وأخيها. “عبّرت عن مظلوميتي وقتئذ. لم أكن خاطئة كي أُضرَب”.

وُلدَت إرادة في كربلاء جنوبي العراق، وعاشت منذ دخولها الجامعة في بغداد. درست الترجمة في الجامعة المستنصرية، ونُشر أول تأليف لها عام 1990، كان بعنوان “شجرة الأمنيات”، لتلحقه بقية المؤلفات.

“ألّفتُ الكتاب عام 1987، وكان باستطاعتي نشره وطبعه بنفسي مثلما يفعل البقية آنذاك، لكنني أردته أن يجتاز أعلى لجنة معنية بدائرة الشؤون الثقافية، لذلك أخذ هذا الوقت حتى تم نشره”، تقول الجبوري.

كان تأليفها الأول مثار جدل بين الروائيَين الكبيرَين، فؤاد التكرلي وموسى كريدي، حول طريقة الكتابة غير المألوفة والانتقال والقفز بين المراحل الزمنية ثم العودة لها، حتى نال النشر بعد اتفاقهما فيما بعد.

ذلك التأليف كانت قد كتبته وهي بمرحلة الجامعة، ونُشر بعد تخرجها، وكانت وقتها تعمل مترجمة وكاتبة في الصفحة الثقافية بجريدة “الجمهورية”، ليَأتي بعد “شجرة الأمنيات”، مؤلفات عدة منها “غبار المدن، عطر التفاح، فقدانات” وصولا إلى “فياغرا”.

محسن أطيمش وسلمان الواسطي وخالد علي مصطفى وسلمان حسن العقيدي، هي أسماء مهمة في حياة الجبوري؛ لما كانت لها دور كبير في صقلها وتنمية وتطوير الكتابة لديها، ناهيك عن كون تلك الأسماء قامات أدبية كبيرة في العراق.

الجبوري تقول، إن “فقدانات” هو الأحب لها؛ كونها وجدت نفسها فيه. اكتشفت طريقتها في الكتابة من خلال ذلك التأليف، وتضيف أن معظم مؤلفاتها كانت تثير الجدل بين النّقاد حول طريقة الكتابة، باستثناء تأليفها الأخير “فياغرا”، الذي أثار الجدل ليس بطريقة الكتابة فقط، إنما عنوانه كان عاملا إضافيا في ذلك الجدل.

قصة “فياغرا”

“فياغرا” مجموعة قصصية صدرت عام 2016، وأثارت جدلا كبيرا؛ بسبب عنوانها، لكن القارئ للكتاب لن يجد أي صلة بين العنوان والتأليف، فما قصة الكتاب.

الكتاب يحكي عن الحرب الطائفية التي مرّ بها العراق. يتناول قصص الضحايا، و”فياغرا” هو المعادل للعنف. “الضعيف جنسيا يستخدم الفياغرا لتنشيط جسده، والضعيف نفسيا يميل للعنف ويستخدم السلاح لقتل الناس”.

في أواسط التسعينيات اقتحمت إرادة الجبوري المجال الأكاديمي، لتدرس الماجستير في الإعلام من خلال مرحلة المقاصة، وتبتعد فترة عن النشاط الثقافي الذي كان يعني لها الكثير، ووراء تلك الانتقالة قصة تحكيها لنا.

عدي صدام حسين، نجل رئيس النظام العراقي السابق، كان قد ترأس “التجمع الثقافي” في العراق، وجعل إدارته مركزية به، وصار يدخل المجال من لا علاقة لهم بالثقافة، وبدأ الإسفاف يأخذ مطرحه وقتئذ، وهو ما دفعها للولوج إلى المجال الأكاديمي.

بعد مرحلة الماجستير، انتقلت الجبوري عام 1997 إلى اليمن، لتقوم بالتدريس في جامعة صنعاء. عاشت 7 سنوات في اليمن. تحب الجبوري تلك الدولة كثيرا، عاشت مع الناس وتعايشت مع قصصهم ومأساتهم.

ما يمر به اليمن اليوم يؤلمها، لكنها تقول إن ما يحصل يراد منه تدمير الحضارة. كانت البداية من العراق ثم سوريا واليمن وليس انتهاء بمصر. تلك الدول هي أُسس الحضارة البشرية، وما حدث فيها ليس بالأمر العَبثي، على حدّ تعبيرها.

طوال فترة وجودها في اليمن لم يكن العراق يفارقها. كانت في اليمن لحظة سقوط نظام صدام حسين في ربيع 2003. تلعثمَت إرادة عندما طلبنا منها أن تصف لنا شعورها في ذلك الوقت. كان الحزن واضحا من تعابير صوتها.

“لم أنم ليلة بأكملها طيلة تلك الأيام وأنا في اليمن. كان كل تفكيري بالعراق”. وقتها فقط أدركت إرادة معنى ما قاله الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب: “الريح تصرخ بي عراق”.

لو جئت في البلد الغريب إليّ ما كمل اللقاء

الملتقى بك والعراق على يديّ.. هو اللقاء

“حبسَة الكتابة”

في عام 2004، عادت إرادة إلى العراق، وعن ذلك تقول: “لأول مرة نمت ليلة بأكملها؛ رغم أصوات القصف والقذائف والانفجارات. نمت مرتاحة البال؛ لأن العراق يحتضنني حينذاك”.

لم تخرج الجبوري من البيت سنَةً بأكملها. ما يمر به البلد جعلها في حالة نفسية صعبة جدا، حتى أنها دخلَت في مرحلة “حبسة الكتابة”، ولم تستطع الخروج منها بسهولة. استغرقت تلك المرحلة سنوات وخرجت منها بتأليف “فياغرا”.

في عام 2008 اغتيل صديق إرادة الجبوري، مستشار وزارة الثقافة كامل شياع، وعندما سألناها عن تلك الحادثة، قالت: “اعبر هذا السؤال”؛ من فرط ما يعتريها من ألم منذ رحيله، لكنها استدركت وتحدثت باقتضاب عنه.

“اغتيل كامل شياع مباشرة بعد عودته إلى العراق من جولة خارجية. كان سبب اغتياله؛ لأنه رفض تضمين المناهج الدراسية بالنصوص الطائفية في وقت تمر به البلاد بحرب أهلية طاحنة، لذلك اغتالوه”.

الجبوري تُعرف بكونها من الدعاة لفكرة المثقف العضوي، وعن ذلك تقول، إن المثقف العضوي ليس الأديب والكاتب، إنما كل من يسعى لنشر الفكر التنويري، وللنهوض بالمجتمع وتعريف الناس بحقوقهم والمشاركة في الاحتجاجات المطلبية، لكن دوره ليس كبيرا بعد بسبب البيئة المحيطة به في البلاد.

إرادة الجبوري ترى أن الاختلاف الجندري ليس بيولوجيا، بل هو اختلاف ثقافي بالأساس؛ لذلك تجد أنه كل من يريد التسقيط بالآخر يلج إلى النصف الأسفل من جسد الإنسان، على حدّ قولها.

عند سؤالنا لها عن الحركة النسوية، كان جوابها، “لا وجود لحركة نسوية في العراق. هناك نشاطات نسوية موجودة ويُشار لها بالبنان”، لكنها تعترف بوجود نساء شابات مؤثرات، بإمكانهن مستقبلا، صناعة حركة نسوية في البلاد.

الجبوري كانت معاونة العميد للشؤون العلمية في كلية إعلام جامعة بغداد، ونجحت في عقد أول مؤتمر علمي دولي للكلية بمشاركة عربية وأجنبية عام 2018، وهي اليوم ترأس مجلة الكلية، رغم أنها كانت على بعد حافة من نيل العمادة.

“لعمري ما فكّرتُ بالمنصب ولم أفكر بالعمادة. حتى المعاونية لم أرغب بها، وأنا من طلبت إعفائي منها، بعد أن استطعت تحقيق أمور عديدة في خدمة الصالح العام، لكن هناك بعض الأمور لم أتمكن من تغييرها؛ لأن نظام الدولة هكذا، وهذا ما دفعني لطلب الإعفاء من منصبي”.

“حَبّلناها وستَلد”

فرص عديدة أُتيحت لإرادة الجبوري للتدريس في خارج العراق، لكنها رفضت ذلك مرارا وتكرارا وأصرت على البقاء في بغداد. تقول: “ولدت هنا وسأموت هنا. ما الذي أفعله في الخارج. كل ما أقدّمه هناك سيكون ذرة في رمل”.

الجبوري شاركتِ في كل الاحتجاجات العراقية ودعمتِها منذ 2011 وإلى اليوم، وترى أن الوعي الاحتجاجي تطور كثيرا في العراق، وهذا تجلى في “انتفاضة تشرين” عام 2019، على حد تعبيرها.

الدكتورة الجبوري تقول، إن كل الحركات الاحتجاجية منذ عام 2011 كانت مطلبية وإصلاحية، وفي “انتفاضة تشرين” تطور الوعي أكثر، وهذا لوحظ في شعاراتها مثل “نريد وطن” و”نازل آخذ حقي”، و”تشرين” تعادل لحظة 2003، بحسبها.

هل يمكن للاحتجاج أن يغير الأنظمة. أجابت الجبوري بعبارة جمال جميل الشهيرة، “حَبّلناها وستَلد”، إذ أن “تشرين” بحسبها هي البذرة التي ستلد حتما في المستقبل، والولادة هي بالتغيير الذي ينشده كل مواطن عراقي.

بما أنها سيناريست، فإن فيلم “كلشي ماكو” من أهم ما أنجزته، وعن ذلك تقول الجبوري، إن “كلشي ماكو” هو المعادل لـ “كلشي أكو”، لكن الشخص الذي تسأله “شكو ماكو”، يجيب بجملة “كلشي ماكو”؛ لأنه لا يعرف من أين ينطلق بالحديث.

“كلشي ماكو” يُجسّد الصبر العراقي في سنوات الطائفية، ونال عدة جوائز وشهد عرضه الأول في “مهرجان سراييفو السينمائي” بدورته الـ 27 العام المنصرم، ثم تلته عدة عروض، منها في بغداد والسليمانية وليون وبرلين وغيرها، وبحسب الجبوري، فإن عرض ليون هو الأهم.

“كانت القاعة مكتظة بالحضور قبل ساعة من موعد العرض. كل الحضور هم من المتخصصين في السينما وممن يشاهدون السينما منذ عقود. كانوا من جنسيات مختلفة، فرنسيون ومغاربة وغيرهم العديد”، تقول الجبوري.

الحضور تفاعل بشكل لافت مع الفيلم، وعبّر الكثير منهم عن شكرهم للقائمين على “كلشي ماكو”؛ لأنهم عرٍفوهم على ما جرى في العراق في حقبة الطائفية المرة، على حد قول الدكتورة إرادة الجبوزي.

في النهاية سألنا الجبوري عن جديدها، والجديد مجموعة قصصية لم تختر عنوانها بعد، لكن من بين قصصها “نوارس”، والتأليف المنتظر بمثابة وثيقة تاريخية عن المغيّبين والقتلى و”تشرين”، وما قبل وبعد “تشرين”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.