في ظل تزايد وتيرة المواجهات بين إيران والغرب، تدخل طهران اليوم مرحلة متقدمة من التصعيد الاستراتيجي، وفق ما تكشفه معلومات حصرية لـ«الحل نت»، إذ أعطى المرشد الإيراني الأعلى الضوء الأخضر لـ «الحرس الثوري» لبدء تطوير جيل جديد من الصواريخ البالستية طويلة المدى، قادرة على ضرب أهداف تبعد 4000 كيلومتر. وبحسب هذه الخطوة، فإن إيران تستهدف توسيع دائرة المواجهة لتشمل قلب القارة الأوروبية، إضافة إلى قواعد عسكرية أميركية تتمركز في مناطق كانت سابقاً خارج دائرة التهديد الإيراني المباشر.

ويأتي هذا التحرك الإيراني في توقيت بالغ الحساسية، إذ عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في قاعدة دييغو غارسيا الاستراتيجية الواقعة في المحيط الهندي، على مسافة بعيدة من مدى الصواريخ الإيرانية التقليدية، بهدف التحضير لأي سيناريوهات محتملة في مواجهة إيران أو حلفائها في اليمن، وتحديداً جماعة «الحوثي»، التي زادت خلال الأشهر الأخيرة من حدة التصعيد في باب المندب والبحر الأحمر.

هذه المعلومات تضعنا أمام عدة تساؤلات أبرزها: ماذا تعني هذا التهديدات لأوروبا، وأيضا كيف ستضع إيران اليمن أما حرب مع الدول الكبرى، وكيف سيعود ذلك بالدمار على الشعب الإيراني؟

وصول “بي 2”

تُعد دييغو غارسيا أبرز جزيرة ضمن مجموعة تشاغوس المنتشرة في المحيط الهندي، وتتمتع بمكانة جغرافية بارزة تجعلها محط اهتمام عسكري منذ عقود، حيث تشارك في استضافتها وإدارتها قوات أميركية وبريطانية بشكل مشترك منذ أكثر من خمسين عاماً.

طائرة نفاثة على متن حاملة الطائرات الأميركية يو إس إس أيزنهاور. (غيتي)

جاء إنشاء هذه المنشآت العسكرية ضمن الظروف الاستراتيجية التي سادت خلال فترة المواجهة الدولية بين المعسكرين الشرقي والغربي، ومع انسحاب النفوذ العسكري البريطاني التدريجي من مناطق شرق قناة السويس، وجد الأميركيون أنفسهم أمام حاجة عاجلة لإيجاد موطئ قدم ثابت في هذه المنطقة الحساسة من العالم، بهدف مواجهة توسع الاتحاد السوفيتي في مواقع استراتيجية مثل اليمن الجنوبي والصومال، إلى جانب تأمين مسارات شحن النفط القادمة من منطقة الخليج.

وازداد التركيز على هذه المنشأة العسكرية بشكل واضح إثر أحداث كبرى عصفت بالمنطقة أواخر عقد السبعينيات، من أبرزها سقوط النظام الملكي الإيراني وتفجّر أزمة السفارة الأميركية في طهران، وتزامن ذلك مع الغزو السوفيتي لأفغانستان. ونتيجة لذلك، تم إجراء توسيعات جوهرية في البنية التحتية لهذه المنشآت العسكرية لضمان الحفاظ على تدفقات النفط الحيوية من منطقة الخليج العربي نحو الأسواق العالمية.

تستفيد جزيرة دييغو غارسيا من تموضعها الاستثنائي في منتصف المحيط الهندي، وهو ما يمنحها القدرة على توفير وصول عسكري سريع إلى مناطق شرق إفريقيا والخليج العربي وأجزاء واسعة من آسيا وأستراليا، ما يجعلها بمثابة منصة عسكرية استراتيجية عائمة على المياه.

وتوجد بالجزيرة مرافق جوية متقدمة تضم مدرجين بطول يقارب أربعة كيلومترات، ومناطق واسعة مخصصة لوقوف الطائرات، تتيح لها استضافة القاذفات الاستراتيجية الثقيلة والطائرات بعيدة المدى مثل «B-52» والقاذفة الشبحية «B-2»، فضلاً عن طائرات النقل العسكري الكبيرة وعمليات التزود بالوقود في الجو.

كما تضم الجزيرة مرافق بحرية متطورة تشمل ميناءً عميق، مجهزاً لاستقبال أكبر السفن الحربية والغواصات النووية العملاقة وحاملات الطائرات التابعة للأسطولين الأميركي والبريطاني. وتتمركز فيها أيضاً مجموعة الدعم البحري التابع للبحرية الأميركية، التي تحمل على متن سفنها معدات قتالية ولوجستية كافية لتجهيز ودعم وحدة قتالية من قوات المشاة البحرية تشمل المركبات المدرعة الثقيلة والذخائر والمستشفيات الميدانية المتحركة، مع قدرة تشغيلية تمتد لشهر كامل.

وإلى جانب هذه المنشآت، تتواجد محطات اتصالات وأنظمة رصد فضائية وتقنية عالية المستوى على الجزيرة، مثل مركز الحوسبة والاتصالات البحرية، ومرافق الاتصالات العالمية عالية التردد، ومحطة الرصد البصري الفضائي التابعة للقوة الفضائية الأميركية. وتعتبر الجزيرة أيضاً نقطة ارتكاز وانطلاق متقدمة للقوات الأميركية والبريطانية في حال تنفيذ عمليات عسكرية أو لوجستية في المنطقة المحيطة بها.

خامنئي يتجبّر

القرار الإيراني الجديد بتطوير صواريخ بعيدة المدى يحمل في طياته دلالات تتجاوز استعراض القوة، إذ يهدف إلى توجيه رسائل تحذيرية إلى أوروبا التي لطالما حافظت على موقف وسطي تجاه الملف النووي الإيراني. وهكذا تصبح القارة الأوروبية في مرمى الصواريخ الإيرانية، ما يعني تغيير قواعد اللعبة، ودفع الأوروبيين لإعادة النظر في حساباتهم السياسية والعسكرية تجاه إيران. وهو ما يعزز احتمالات نشوء اصطفاف أوروبي أوضح إلى جانب واشنطن، بعدما كانت أوروبا تسعى سابقاً للتهدئة وتجنب الانجرار نحو الصدام المباشر مع طهران.

في هذه الصورة المتداولة التي قدمها المكتب الصحفي للمرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي يقف المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي حاملاً بندقية أثناء إمامته لصلاة الجمعة في مسجد مصلى الإمام الخميني في 04 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في طهران، إيران. (الصورة من المكتب الصحفي للمرشد الإيراني - غيتي)
في هذه الصورة المتداولة التي قدمها المكتب الصحفي للمرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي يقف المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي حاملاً بندقية أثناء إمامته لصلاة الجمعة في مسجد مصلى الإمام الخميني في 04 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في طهران، إيران. (الصورة من المكتب الصحفي للمرشد الإيراني – غيتي)

هذا التطور، وفق الدبلوماسي والباحث السياسي، عبد السلام محمد، لا يضع أوروبا أمام خيارات سهلة، خاصة في ظل أزمات اقتصادية وسياسية متتالية تضرب دول الاتحاد الأوروبي. فأوروبا التي تعتمد إلى حد كبير على مصادر الطاقة القادمة من الخليج، سترى نفسها خلال الأيام القليلة القادمة – إذا ما دخلت هذه الصواريخ الخدمة العسكرية – مضطرة لتأمين خطوط إمداد الطاقة البحرية من الخليج العربي مروراً بباب المندب وقناة السويس، وهي خطوط مهددة بشكل جدي من «الحوثيين» الذين باتوا أكثر جرأة في استهداف الممرات الدولية والسفن التجارية، بتشجيع مباشر من إيران.

من الناحية العسكرية والاستراتيجية، فإن امتلاك إيران لصواريخ بمدى 4000 كيلومتر يعني إمكانية استهدافها لجميع القواعد العسكرية الأميركية الكبرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكذلك قواعد «الناتو» المنتشرة في جنوب وشرق أوروبا. هذا الأمر لا يمكن لأوروبا أو أميركا التساهل معه، إذ سيغير الحسابات الدفاعية والاستراتيجية لدول «الناتو»، ويجبر الحلف على اتخاذ إجراءات احترازية جديدة من ضمنها تعزيز القدرات الدفاعية الجوية وإعادة الانتشار العسكري بشكل عاجل على المستوى الأوروبي، إلى جانب تكثيف التعاون الاستخباري مع حلفائهم في الشرق الأوسط.

حين يصبح الانتماء أهم من العقل!

لكن ما يعقد المشهد الدولي الحالي هو استخدام إيران لليمن كجبهة متقدمة في هذا التصعيد. إذ عملت إيران في السنوات الأخيرة على تزويد «الحوثيين» بصواريخ متوسطة المدى وطائرات مسيّرة متطورة، وهي الآن بصدد استخدام هذه الجبهة كأداة ضغط مباشر على أوروبا والولايات المتحدة، من خلال استهداف الملاحة البحرية ومضايقة حركة التجارة الدولية، وربما ضرب المصالح الغربية بشكل أوسع إذا ما اندلعت مواجهة عسكرية مباشرة.

اليمن اليوم يقف أمام لحظة تاريخية فاصلة قد تجره رغماً عنه إلى حرب مدمرة، ليس فقط بين «الحوثيين» والتحالف العربي، بل بين إيران والقوى الكبرى التي تجد نفسها مضطرة للتحرك من أجل حماية مصالحها وأمن الملاحة الدولية. 

ومع انعدام إمكانية السيطرة الكاملة على «الحوثيين» من قبل إيران، فقد يصبح اليمن منصة لانطلاق عمليات لا يمكن السيطرة على نطاقها، ما يفتح الباب أمام حرب إقليمية واسعة قد تمتد نيرانها إلى القرن الإفريقي ومنطقة الخليج العربي، وتجر معها الأطراف الدولية نحو حرب مكلفة وطويلة الأمد.

الشعار والمضمون

بالانتقال إلى المستوى الداخلي في إيران، نرى أن القيادة السياسية الإيرانية تضع البلاد أمام خيارات صعبة وخطرة للغاية، فالتحرك في مثل هذه البرامج العسكرية سيزيد من حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ويضاعف من معاناة الشعب الإيراني الذي يعاني أساساً من أوضاع اقتصادية خانقة. 

هجوم وقح ماذا كشف الرد الإيراني على إسرائيل؟ (1)
المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي يحضر احتفالاً مشتركاً للجيش في طهران. (تصوير حسين فاطمي/وكالة الأنباء الفرنسية)

إصرار المرشد الأعلى و«الحرس الثوري» على الدخول في هذه المغامرات العسكرية يهدد بمزيد من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، في ظل الاحتجاجات الشعبية المستمرة والتي عبرت في السابق عن رفضها لتحويل موارد البلاد نحو التسليح والمغامرات الخارجية.

وفي حال قررت القوى الغربية شن ضربات عسكرية ضد المواقع الإيرانية لتدمير هذا المشروع الصاروخي الخطير، فإن إيران ستجد نفسها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، ما يعني عزلة دولية غير مسبوقة قد تؤدي إلى انهيار تام للاقتصاد الإيراني، وإضعاف هيكل الدولة، فضلاً عن إحداث شرخ عميق داخل النظام الإيراني نفسه الذي يعاني حالياً من صراعات بين التيار المتشدد والتيار البراغماتي، وسط تراجع متواصل لشعبية النظام لدى غالبية الشعب الإيراني.

أما على الصعيد الأوروبي، فإن هذا التطور الصاروخي الإيراني يشكل كابوساً أمنياً واستراتيجياً حقيقياً، حيث تجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة لزيادة الإنفاق العسكري، وتكثيف التعاون مع حلفائها الدوليين والإقليميين، لمواجهة هذا التهديد. وقد تؤدي مثل هذه الخطوة الإيرانية إلى تداعيات اقتصادية قاسية على أوروبا، إذ ستكون مضطرة لضخ استثمارات ضخمة في منظومات الدفاع الجوي والصاروخي، وإعادة الانتشار العسكري بما يضمن حماية مصالحها وأمن مواطنيها.

كما سيؤدي هذا التصعيد الإيراني إلى تغيرات سياسية جذرية في أوروبا، خاصة في توجهات الرأي العام تجاه السياسة الخارجية والدفاعية للاتحاد الأوروبي. فالمواطن الأوروبي الذي اعتاد العيش في أجواء من الاستقرار النسبي خلال العقود الماضية، سيجد نفسه أمام خطر عسكري جديد لم يكن في الحسبان، لا سيما أنه منذ عام 2022 يعاني من تبعات غزو روسيا لأوكرانيا.

كل هذه المعطيات تشير إلى أن قرار إيران بتطوير صواريخ بالستية تصل إلى عمق أوروبا ليس مجرد تصعيد تكتيكي أو مناورة سياسية، بل هو خطوة قد تدفع المنطقة والعالم نحو مرحلة جديدة من المواجهة المباشرة، وتفتح الباب أمام سيناريوهات كارثية، يكون الخاسر الأكبر فيها هو الشعب الإيراني والشعوب التي تجد نفسها في قلب هذا الصراع الدولي المحتدم وهنا الحديث يوجه لليمنيين بشكل خاص. فيما ستواجه أوروبا والولايات المتحدة خيارات صعبة للغاية بين التصعيد العسكري، أو محاولة التوصل إلى تسوية دبلوماسية مع إيران تبدو اليوم بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات