منذ سقوط النظام السوري السابق، ما تزال الأصوات تتعالى في سبيل تطبيق العدالة الانتقالية ومحاسبة كل من تورط في ارتكاب انتهاكات إنسانية وجرائم على مدار 14 عاما من الثورة السورية، من دون إعطاء امتيازات أو عفو عن أي شخص من جميع الأطراف، المعارضة ونظام الأسد.

في حين أن هذا الملف لم يشهد تقدما ملحوظا خلال الأشهر الستة الماضية، في ظل مطالب شعبية بمحاسبة المتورطين وإحالتهم إلى القضاء تمهيدا لمحاسبتهم دون أي اعتبارات، الأمر الذي يحقق الإنصاف للضحايا وذويهم، ويمهد الطريق لبناء دولة تقوم على أسس العدالة والقانون.

وأعاد ظهور فادي صقر -القائد السابق في ميليشيا “الدفاع الوطني” وأحد المتهمين بارتكاب مجزرة التضامن إلى جانب انتهاكات أخرى- مؤخرا مع مسؤولين من الحكومة السورية المطالب بمحاسبته، إذ يعد أحد أبرز المتهمين بارتكاب مجزرة التضامن في نيسان/أبريل 2013، وسط تحذيرات من إعادة تدوير الجناة في سوريا.

تخوف من انفجار شعبي

عدم تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا ولجميع الأطراف، يفتح الباب أمام استمرار حالة عدم الاستقرار والانفلات الأمني في البلاد، حيث ستستمر عمليات الانتقام الفردية والتصفيات العشوائية التي تشهدها المحافظات السورية، بينما ستبقى هناك حالة من الاحتقان الشعبي تهيمن على الموقف، لشعورهم بالمظلومية وعدم الإنصاف، بعد سنوات من القمع وما تلاها من سنوات حرب أودت بحياة مئات الآلاف من السوريين، إلى جانب المعتقلين المغيبين قسرياً.

القائد السابق في ميليشيا “الدفاع الوطني” فادي صقر – انترنت

وتدرك الحكومة السورية الانتقالية خطورة هذا الموضوع، إذ رفع جهاز الأمن العام من جاهزيته في معظم المحافظات، خاصة الساحلية، خشية ردود فعل غاضبة على خلفية التصريحات التي أطلقها عضو اللجنة العليات للسلم الأهالي، حسن صوفان.

شهدت مدينة اللاذقية انتشارا كثيفا لعناصر الأمن العام والشرطة في مدينة اللاذقية خلال الساعات الماضية، في محاولة واضحة لضبط الوضع ومنع أي ردود فعل غاضبة، بحسب ما نقل مراسل “الحل نت” عن مصدر محلي في المدينة.

وأضاف المصدر أن التوتر في الشارع بدأ يتصاعد بسبب ما يراه البعض قرارات خاطئة قد تدفع نحو مرحلة مصيرية، واحتمال حدوث انفلات أمني أو عمليات انتقامية.

وكان صوفان، قال في مؤتمر صحفي الاثنين الفائت، إن القيادة السورية أعطت الأمان لفادي صقر “بناء على تقدير المشهد، لحقن الدماء، خصوصاً في منطقة الساحل، بعد أحداث وتوترات استثنائية شهدتها خلال الفترة الماضية”، مؤكداً أن هذه الإجراءات ليست بديلاً عن العدالة الانتقالية.

وأضاف: “نتفهم الألم والغضب اللذين تشعر بهما عائلات الشهداء”، بينما اعتبر أن الأولوية الآن تتمثل في تأمين استقرار نسبي للمرحلة المقبلة، والتمهيد للمصالحة الوطنية.

يأتي ذلك بينما لم يصدر أي توضيح رسمي من الجهات الحكومية أو القضائية حول ما إذا كان منح صقر “الأمان” تسوية لوضعه وإعفاءه من المحاسبة أم أن السماح له بالحركة تأجيل مؤقت فقط.

تعويم صقر: “خرق للقانون الدولي”

المحامي عثمان الخضر، وصف تعويم فادي صقر بأنه “استخفاف واستفزاز واضح لجمهور الثورة”، معتبرا أن ظهوره كرمز سلام يُعدّ جريمة بحق ملايين الضحايا الذين عانوا من انتهاكات النظام المخلوع”.

وأضاف في حديث لـ “الحل نت”: “مكان فادي صقر ومن مثله هو السجن، وعدم محاسبتهم يُعد تمييعاً للعدالة الانتقالية، التي بتنا نشك في إمكانية تطبيقها. وإذا كانت هناك معوقات سياسية، فعلى الأقل يجب إبعاد رموز الإجرام عن المشهد وعدم استفزاز الحاضنة الثورية.”

بينما اعتبر المحامي عبدو عبد الغفور أن “تعويم صقر يمثل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، وانتهاكاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”.

وأوضح في حديث لـ “الحل نت” أن إعادة دمج المتورطين في الجرائم ضمن مؤسسات الدولة هو استخفاف بمبادئ العدالة، ويمثل تهديداً مباشراً لثقة الضحايا بالعملية الانتقالية.

عبد الغفور طالب الحكومة الانتقالية بـ إصدار قوائم علنية بأسماء المتورطين في مجازر وجرائم ضد الإنسانية، ومنع إعادة دمجهم في أي مؤسسة سياسية أو أمنية، وتأسيس محاكم خاصة للجرائم الكبرى، وفق معايير المحاكمة العادلة، إضافة إلى جبر ضرر الضحايا مادياً ومعنوياً وتعزيز التعاون مع آليات المساءلة الدولية.

في عام 2020 أُدرج صقر على لوائح العقوبات الأميركية إلى جانب مجموعة من الشخصيات المقربة من النظام السوري، سواء في الجانب السياسي أو العسكري في إطار تنفيذ “قانون قيصر“، إذ تم استهداف قائد ميليشيا “الدفاع الوطني” فادي صقر (سوري الجنسية من مواليد 1975)، بسبب دوره في دعم النظام المخلوع وارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.

بدورها، وصفت الناشطة الاجتماعية راما العبد، ما حدث بأنه “خط أحمر” يجب التوقف عنده“، معتبرة أن إعادة تعويم شخصيات متورطة بجرائم موثقة، مثل فادي صقر، هو استهتار بحقوق الضحايا، وخرق مباشر لفكرة العدالة الانتقالية التي يجب أن تُبنى عليها المرحلة الجديدة في سوريا.

وأضافت في حديث لـ “الحل نت”: “لا توجد أي تسوية أمنية يمكن أن تلغي مسؤولية قانونية أو جنائية، ما يحدث الآن هو طمس للملف، بدل فتحه، وهذا يُرسل رسالة خطيرة مفادها: افعل ما تشاء، سيُعاد دمجك لاحقًا.”

تتفق العبد مع عبد الغفور في أن هيئة العدالة الانتقالية، والحكومة الجديدة، مطالبتان بموقف واضح لا يحتمل التباساً، إذ يجب فتح تحقيق علني، وتوضيح معايير التسوية، ومن تشمل، مؤكدة أن كل شخصية متهمة بانتهاكات يجب أن تُحال إلى القضاء، لا أن تعود لحياتها الطبيعية بينما “ما تزال الجثث في الذاكرة والمقابر الجماعية.”

هل هناك تفاهمات خارجية؟

منذ ظهور فادي صقر في حي التضامن جنوبي دمشق في شباط/فبراير الماضي، أثار تساؤلات حول آلية التسوية التي أُجريت في شارع نسرين بحضور وجهاء من المنطقة وضباط من الأمن العام، حيث أثار ذلك غضبا شعبيا واحتجاجات في الحي، وسط تساؤلات عن ماهية هذه التسوية وقانونيتها، في ظل وجود أدلة على ضلوعه بارتكاب جرائم إنسانية.

وأكد مصدر أمني سوري في حديث لـ “الحل نت”، رفض الكشف عن اسمه، على وجوب محاسبة “المجرمين مثل فادي صقر وغيره”، مشيرا في الوقت نفسه إلى ثقته بالحكومة وإجراءاتها الحالية.

“الحكومة الانتقالية تعمل على اعتبارات لا تستطيع الكشف عنها للعلن، ولديها اطلاع على ملفات داخلية وخارجية”

مصدر أمني سوري لـ “الحل نت”

ولم يدلِ المصدر بمزيد من التفاصيل حول ملف فادي صقر، لكن في حديثه إشارة إلى وجود تفاهمات، داخلية أو خارجية.

في سياق ذلك، اعتبر الحقوقي أحمد مزنوق أنه من غير المقبول أن يُعاد تدوير مجرمين موثقة جرائمهم، بدعوى الحفاظ على السلم الأهلي. وأضاف: “فادي صقر ليس حمامة سلام بل أداة من أدوات القمع، وظهوره في المشهد مجدداً يمثل طعنة في ظهر الثورة.”

كما دعا مزنوق “هيئة العدالة الانتقالية” إلى التشاور مع الحقوقيين والمحامين في أي قرار يتعلق بالمصالحة والسلم الأهلي، محذراً من أن “استنساخ تجربة تونس أو مصر في تعويم رموز الأنظمة السابقة قد يؤدي إلى نتائج كارثية.”

في الـ 17 أيار/مايو المنصرم، أعلنت الرئاسة السورية في مرسوم عن تشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية“، وسط تساؤلات حول آلية تشكيلها وتسمية أعضائها، إضافة إلى انتقادات طالت حصر التحقيقات بالجرائم التي ارتكبها النظام المخلوع، دون غيره، في حين اعتبر حسن الدغيم، المقرب من سلطات دمشق، أن عملية جمع الأدلة القانونية التي يمكن استخدامها في المحكمة ضد بعض الأفراد المرتبطين بحكومة الأسد صعبة ومعقدة.

ماذا علّق فادي صقر؟

في تصريح لافت، نفى فادي صقر، مسؤوليته عن أي جرائم ارتكبها خلال فترة الحرب في سوريا، وأي دليل تمتلكه ضده الحكومة السورية. إذ قال في تصريح لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية: “كانت الدولة واضحة معي منذ البداية: لو كان لدى وزارة الداخلية أي دليل ضدي، لما كنت أعمل معهم اليوم”.

كما نفى صقر مسؤوليته عن أي انتهاكات، مشيراً إلى أن تعيينه قائداً في ميليشيا “الدفاع الوطني” كان بعد مجزرة التضامن.

بينما أكد القائد السابق في عهد النظام المخلوع أنه “لم يحصل على أي عفو من الحكومة”. وأضاف: “سأخضع نفسي لما يقرره القضاء، وفق الإجراءات القانونية السليمة”.

وأردف في حديثه للصحيفة أن “خلفيته، ليس فقط باعتباره علوياً، ولكن أيضا كقائد لميليشيا تابعة للنظام السابق، أعطته المصداقية لإقناع أنصار النظام المخلوع، بعدم الابتعاد عن الحكومة السورية الجديدة”.

لكن صقر أُدرج على لوائح العقوبات الأميركية في عام 2012، بسبب تورطه في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بينما وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” ومنظمات أخرى مئات الانتهاكات المرتكبة داخل مراكز الاحتجاز التابعة لمليشيا “الدفاع الوطني” التي كان يرأسها صقر، شملت حالات واسعة من التعذيب والإعدام خارج نطاق القانون.

في ظل هذه التطورات، يبقى مصير وصول سوريا إلى الاستقرار الكلي وإنهاء حالة الانفلات الأمني والعمليات الانتقامية، مرهونا بمدى جدية الحكومة السورية بتطبيق العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا وذويهم، بينما يبقى الباب مفتوحا على تساؤلات حول مصير البلاد والمُضي قدما بمسار جديد بعيدا عن إعادة تدوير شخصيات ارتكبت انتهاكات وجرائم إنسانية.

إذ إن ذلك يعد إشارة فيما إذا كانت الإدارة السورية الجديدة ستعمل بنفس نهج النظام المخلوع أم أنها ماضية في طريق دولة القانون والعدالة بعيدا عن أي اعتبارات تُعيد إنتاج نفس المنظومة بأساليب ناعمة ومسميات مختلفة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة