حبش

د. محمد حبش

تبدو الجزيرة العربية تقريباً بما فيها قطر والكويت والإمارات خاليةً تماماً من أي أثر ديني يذكر يعود إلى ما قبل مائتي عام، فهل يعقل أن الأجداد لم يتركوا عبر التاريخ أثراً دينياً قابلا للخلود في هذه البلاد؟

هل هو الخمول عن العمران والاستهتار بالأوطان؟ أم أن هذه الآثار التي كانت تسكن فيها أرواح الطاهرين ومشاهدهم تمت إبادتها في إطار فقه ديني صارم يستند إلى أصول صحيحة من الأسانيد؟

لا توجد اليوم في الجزيرة العربية أضرحة ولا قباب ولا مشاهد، من المؤكد أن الأمر لك يكن كذلك قبل مئتين وخمسين عاماً، ولكن في غمار الدولة الوهابية الأولى 1780 فإن المساجد التاريخية كانت تتم تسويتها بالأرض إذا ما اشتملت على قبر أو ما يشبه القبر، وبعد هدمها كانت تقوم مكانها مساجد صغيرة وكبيرة على شكل قاعات بلا معالم، ولا يتجاوز التسامح المأذون به رفع المئذنة أو القبة أو فتحة المحراب، ومع ذلك فقد ظلت حتى هذه البدع منكرة عند الأتباع الأشد سلفية وظاهرية.

وحتى  مسجد جواثا في الأحساء المنسوب إلى بني عبد القيس، فإنه اليوم مجرد محاكاة للقديم ولا أثر فيه من الماضي، ولا يوجد في الجزيرة العربية أثر ديني عمراني واحد يعود إلى عصور الحضارة الإسلامية الزاهرة.

حتى مكة التي تضم أهم معالم التاريخ الإسلامي على الإطلاق فمن العسير أن تجد فيها أثراً واحداً يعود إلى مئة عام، خاصة بعد هدم التوسعة العثمانية الذي يجري هذه الأيام على قدم وساق في الحرم المكي.

بقيت الكعبة وحدها أثراً باقياً من زمن النبوة، ولم يشفع لها أن يصيبها ما أصاب سائر المعالم الأخرى، إلا أنها ذكرت باسمها الصريح في النص القرآني، أما ضريح النبي الكريم في المدينة فقد تعرض لنقد شديد من قبل السلفيين المتشددين، وصرح الشيخ عبد العزيز بن باز بأن من الأفضل إزالة القبر ونقل الرفات للبقيع وهدم القبة الخضراء.

لا تبدو هذه الأماني البازية مستغربة أو مستهجنة في الفقه الظاهري، أبو بكر الجزائري مثالاً، وتصريحات الدواعش الأخيرة، ولكنها تبدو مرعبة ومدهشة وغير مفهومة عند المسلم العراقي أو الشامي أو المصري أو المغاربي الذي يراها أقدس معالم الإسلام الباقية.

تماماً كما هو واقع تلك البلاد الخاوية من كل أثر ديني عتيق، فإن حركة داعش والنصرة ماضيتان للأسف لتكرار الشيء نفسه مع سوريا والعراق، التزاماً بظاهر النصوص التي مارسها التطرف والتي أدت إلى هدم كل أوابد الحضارة الإسلامية في الجزيرة العربية.

لا يتردد الذين هدموا مسجد النبي يونس في الموصل بسبب وجود القبر فيه، أن يصرحوا بتوقهم إلى هدم مسجد خالد بن الوليد في حمص، وهدم مسجد النبي زكريا في حلب، وهدم مسجد النبي يحيى (الأموي) في دمشق وهدم مسجد الحسين في القاهرة للأسباب ذاتها، وربما الوصول ذات يوم إلى قبر النبي الكريم في المدينة الذي يصرحون مراراً أنه من بقايا الشرك الواجب إزالته.

ولكن الأمر في العالم الإسلامي كله جد مختلف، آلاف الأضرحة والقباب الخضر ولكل قبة خضراء تاريخ وتراث، وصحابة وأنبياء، وأولياء وأصفياء، يحظون باحترام هائل في ضمير المؤمنين، وقد أصبحت هذه المراقد والمشاهد ديواناً للتاريخ الحضاري للأمة ومتاحف لذاكرتها وذكرياتها.

وفي كل مدينة إسلامية كبرى أحياء بحالها تقوم على مراقد الصالحين ومزاراتهم وتشتهر فيها ثقافة اخلع نعليك، حيث كان الأسلاف يخلعون النعال عند هذه الأحياء التاريخية التي تزدحم برفات الصالحين.

إنها الروح التي تشعر بها وأنت تطوف في التاريخ في حي الصالحية بين ضريح الشيخ محي الدين وضريح عبد الغني النابلسي وفي حي المدارس العمرية والأتابكية في جبل الصالحين.

إنها باختصار جوهر المفارقة بين الفقه الإسلامي المتطور وبين المذهب الظاهري الذي اختار موقفا جامداً يناقض مذاهب الفقهاء التي اتصفت بالبراجماتية والواقعية السياسية والاجتماعية خلال التاريخ.

إن تدمير الآثار الآشورية هو أمر محزن وقميء ولكن ماذا عن تدمير المعالم الإسلامية أيضاً… مسجد النبي يونس في الموصل مع حدائقه أكبر من الجامع الأموي التاريخي مع محيطه، ومع ذلك تم تدميره بالكامل على الرغم من أن التنظيم المسلح قد أرسل سرية قبل أسابيع من هدم المسجد، وقاموا بنبش قبر النبي يونس وطمسه بالكامل وتسويته بالأرض كما يريد فلاسفة التنظيم، ولكن بعض الذكريات الجميلة عن الضريح دونها صحفيون وفقهاء في مقالات صحفية هنا وهناك، رأى فيها الدواعش تهديداً للعقيدة الصحيحة، فكان قرار هدم المسجد كله!! هو جواب هذا التنظيم الحجري حماية للعقيدة وحفاظاً على التوحيد….

يهدمون بيوت الله حفاظاً على توحيد الله.

إنها مرة أخرى معالم الصراع بين النص والاجتهاد….

النص محكوم بالزمان والمكان، والعودة لإحيائه بالقفز فوق شروط الزمان والمكان هو إساءة إليه، وبصراحة وأمانة فإن ظاهر النص يدل لهم بوضوح، وهم أكثر تطبيقاً لظاهر النص من المسلمين كافة، وهم معتصمون بمنطق كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

في قراءة دقيقة فإن خيار الظاهرية في هدم كل معالم القبور والقباب وتحريم الصور والتماثيل هو الأقرب إلى ظاهر النص، ويمكن في قراءة شاملة أن نقرأ 23 نصاً في البخاري ومسلم تدعو إلى تسوية كل قبر وهدم كل قبة تقام على قبر، منها الأحاديث التالية:

عن علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته، ثم قال من عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد –  رواه مسلم والترمذي وابو داود واحمد.

وعن جابر قال نهى النبي أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها. رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

وأشد من ذلك ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد…. إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

كان المفترض أن لا تبقي هذه النصوص في العالم الإسلامي مشهد قبر إلا طمسته ولا قبة إلا هدمتها وهذا بالفعل ما حاولته الحركات المتشددة خلال التاريخ: حركة الخوارج والقرامطة والوهابية الأولى، ولكن الأمة الإسلامية بفقهها المتجدد رفضت الوقوف عند ظاهر النص وأدخلت فيه التأويل الضروري وقرأت هذه الروايات في سياقها الزمني ولم تنظر لها على أنها صالحة لكل زمان ومكان، وربطت ذلك بقرب العهد من الوثنية وعبادة الاحجار.

ولكن الأمر تغير تغيرا كبيرا بعد ذلك في سياق القيام الحضاري للمسلمين، وتم إطلاق نهضة عمرانية فريدة في كل عواصم المسلمين، اشتملت على بناء المساجد بما لم يكن مألوفاً من المآذن والقباب والزخارف والأروقة والمزارات وهذه كلها يرفضها العقل الظاهري البيوريتاني، وكانت الحركات الأصولية تقوم بين الحين والآخر بهدم ما يتيسر من هذه المساجد، ولكن نظرة واحدة على التراث الشامي والعراقي والمصري والمغربي تجعلنا نسلم بأن الفقه كان أقوى من النص، وأن الفقه قام بتأويل النصوص ولو تعسفاً ليلحق بالركب الحضاري والعقلاني، وقام بما يشبه نسخ هذه النصوص بقواعد التخصيص والتقييد والتأويل.

وخلال القرون المتتالية بنيت آلاف المشاهد والمزرارات والقباب الخضراء في الشام والعراق ومصر وحظيت بأكبر احترام في المخيلة الجمعية للناس، وبشكل خاص قامت آلاف المشاهد والمزرات لأهل البيت، وبنيت المساجد على أشكال من البدع المرفوضة تماما في العقل الظاهري الحنبلي، من قباب وقبور ومشاهد وزخارف وتزيين، كما قامت إلى جانب المساجد الكنائس والمعابد الدينية التي تنتمي إلى مختلف العصور.

بينما لا يوجد في الجزيرة العربية التي خضعت للمذهب الظاهري (العمل بالكتاب والسنة) أي مشهد على الإطلاق من هذه المشاهد، ومن المستحيل أن تجد قبراً معظماً في أي مسجد ولا حتى في أي مقبرة.

من المستحيل عقد أي مقارنة بين المقابر التقليدية في دمشق أو القاهرة مثلاً وبين المقابر في الرياض أو القصيم أو حتى مقبرة البقيع في المدينة أو الحجون في مكة حيث لا وجود لأي معلم عمراني في أي من هذه المقابر، فيما تعج المقابر في الشام والعراق ومصر بالقباب والأضرحة والمزارات والشواهد والرموز الآبائية المختلفة.

الشعار الأبيض الذي ترفعه الحركات الإسلامية: الحكم بالكتاب والسنة، هو في الواقع حركة عكس التاريخ، لأن التطبيق الحرفي لهذه المقولة سيأخذنا بكل تأكيد إلى خيارات متشددة، ومسؤولية رجال التنوير أن يضعوا أمام الجيل الجديد أن فهم الأمة التاريخي لهذه الشعارات لم يكن أبداً ذلك التنفيذ الحرفي لظاهر النص الذي تفرضه قوى التطرف.

من يقول لهذه الحركات الجهادية المحاربة التي ترفع شعارات الإسلام إن هذا الفهم الظاهري للنص يتناقض تماماً مع تطبيق فقهاء الإسلام خلال التاريخ، من أندونيسيا إلى موريتانيا وما بينهما من عواصم الإسلام خلال التاريخ بغداد والقاهرة وحلب والموصل ودمشق والقيروان ومراكش وفاس وقرطبة واصفهان ونيسابور وبخارى…..، باستثناء المساحات التي انتشر فيها المذهب الظاهري.

لقد ظل الخلاف في فهم النص تاريخياً في إطار فقهي جدلي، ولكنه اليوم في غمار الحرب المجنونة تحول إلى حوار بالمعدات والمتفجرات والرصاص، وما لم نطرح هذه المراجعات الجريئة فإن الصراع سيستمر في فصوله الدامية، حيث يسكن في خيال الظاهريين أنهم يمارسون تطهير الاسلام من البدع، ولن يهدأ لهم بال حتى تعود ملامح التاريخ السوري والعراقي والمصري والمغاربي المشحون بآلاف المعالم العمرانية الحضارية الدينية إلى ركام.

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.