وكالات (الحل) – نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية، تقريراً تناولت فيه حال ما تبقى من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مع استئناف المعركة الأخيرة التي يقودها التحالف ضده. فبينما توجه الغارات الجوية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ضربةً نحو مستودع الأسلحة التابع لتنظيم «داعش» كان هناك وميضٌ من الضوء ينير بلدة الباغوز المُظلمة لتبتلع كرة اللهب بعدها بثوانٍ معدودة الحي بأكمله.

«أدى دوي الانفجار إلى اهتزاز الأرض لأميالٍ بعيدة، وسط ذهول الجميع لثوانٍ, وسرعان ما انطلقت نيران المدافع مجدداً».
فبعد خمس سنوات من اجتياح تنظيم «داعش» للأراضي في كل من العراق وسوريا، لم يبق من «الخلافة» التي امتدّت في أوجها عبر البلدين لتشمل ما يعادل مساحة بريطانيا العظمى، وفرضت حكمها على حوالي عشرة ملايين نسمة، سوى بضعة شوارع متفرقة في أنحاء نهر الفرات الذي يمر عبر هذه البلدة الصحراوية، والتي سوف يتم السيطرة عليها كاملة خلال أيامٍ معدودة. ومع الحصار المفروض على البلدة من الغرب من خلال تقدّم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بقيادتها الكردية، ومن قبل النظام السوري وروسيا من الجانب الآخر للنهر، باتت دولة “الخلافة” كتلةً من النار والدخان، ولم يبق فيها أي مكان للمقاتلين كي يلجؤون إليه.

والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية يعوّض اليوم الوقت بدل الضائع في معركته لإخراج تنظيم «داعش» من معقله الأخير. وبعد هدنةٍ دامت عشرة أيام لإخراج النساء والأطفال من البلدة، استُؤنف الهجوم خلال اليومين الأخيرين بشكلٍ مكثّف لم تشهده حتى المعارك الرئيسة التي وقعت في كل من الموصل والرقة. وبالرغم من إعاقة قناصي التنظيم والتفجيرات الانتحارية والصواريخ الحرارية لقوات «قسد» من التقدم في وضح النهار، إلا أن افتقار التنظيم لأجهزة الرؤية الليلية يعيق نشاطه. الأمر الذي يفسح المجال لقوات «قسد» بالتقدم.
وفي اليومين الماضيين تم الهجوم على ما تبقى من مواقع التنظيم بالطائرات الأمريكية المقاتلة والمروحيات. إضافةً إلى تمركز ما لا يقل عن 160 رشاشاً على طول الخط الأمامي للجبهة، حيث يملأ دويّها المنطقة.

وبعد أن خيّم ظلام يوم السبت الماضي على المكان بالقرب من الجبهة، بدأت نيران المدافع وقذائف الهاون ترسم مسارات وشرارات حمراء لتلتهب أشجار النخيل والأنقاض في المنطقة مشكّلة غيوم كثيفة من الدخان في السماء. “النهار لهم والليل لنا”، يقول القيادي “ممو وان” من «قسد» بينما رجاله يهتفون ويهللون مع كل قصف وتفجير. وقد تمكنت «قسد» خلال اليومين الماضيين من سد الفجوة المتبقية بمسافة كيلومتراً واحداً بين تنظيم «داعش» وموقعهم، وأوضح «وان» بأن الجهاديين الآن محاصرين بالكامل مع قطع جميع خطوط الإمدادات عنهم باستثناء خط واحد فقط. يقول: “استطعنا الحصول على أجهزة اتصال لاسلكية من المقاتلين الفارّين واستمعنا إلى زملائهم المذعورين وحديثهم عن كيفية الفرار”، ويضيف: “من لهجاتهم يمكن التأكيد بأن الكثير منهم عراقيين إضافةً إلى الأجانب”.

ويشير التقرير إلى أن ما بين ألف إلى ألف وخمسمائة مقاتل ما يزالون داخل الجيب الواقع على ضفاف نهر الفرات، إضافةً إلى عدد غير معروف من النساء والأطفال. حيث يقول القيادي «عدنان عفرين من «قسد»: “كنا نتوقع خلال عمليات الإخلاء مغادرة ألفي شخص فقط، إلا أنه في النهاية كان هناك ما يزيد عن تسعة آلاف من النساء والأطفال. لذلك فمن الممكن أن يكون هناك أعداداً من المقاتلين تفوق توقعاتنا”. ويضيف: “هذه المعركة سوف تكون صعبةً للغاية لأن الكثيرين سوف يقاتلون حتى النهاية”. هذا وتعتقد «قسد» بأن كبار المقاتلين ربما كانوا يحاولون تقديم الرشاوى للنظام من أجل السماح لهم بالمرور إلى البوكمال الواقعة على الجانب الآخر من نهر الفرات. وتخمن المعلومات الاستخباراتية الحالية بأن الرهائن البارزين ما يزالون محتجزين في الباغوز كأوراق مساومة. كما أن طفلين أمريكيين ما يزالان محتجزين في البلدة وهما يوسف وزهراء شيكدر اللذان قتلت والدتهما في غارة جوية في شهر كانون الثاني الماضي. ويعتقد أنهما الآن في ضيافة عائلة بريطانية اختارت الموت في المعركة من أجل البلدة.

فقد غادر الراغبون في ترك مدينة الباغوز خلال الأسبوعين الماضيين، ومشوا لساعات أو وصلوا إلى نقاط تفتيش تابعة لـ«قسد» في المركبات التي تستخدم عادةً لنقل الماشية وتم أخذهم إلى السجن أو إلى مخيمات النازحين. وألقى عناصر «قسد» القبض على ما يقارب مئة شخص من الفارين من القتال المعلّق يوم الجمعة وسط الصحراء. حيث كان من بينهم ثلاثة فتية مراهقين أجبروا على القتال، وكان التعب والجوع قد أنهكهم فانقضوا على الخبز الذي قدموه لهم آسريهم. بينما بقي الأطفال الصغار بالقرب من أمهاتهم، وكانت أنوفهم وأيديهم وفي بعض الأحيان أقدامهم العارية تتحول للون الأزرق في رياح الصحراء القارصة. ولم تكن على وجوههم أية تعابير، كما أن معظمهم لم يكن يبكي.

كما حاول مجموعة من الرجال العبور كمدنيين. فتجاهل أحد المقاتلين البوسنيين الأسئلة مغمضاً عينيه وراسماً على شفتيه ابتسامة رائقة قبل أن يسقط مغشياً على الأرض. وقال الطبيب الذي قدم له الإسعافات بأنه لم يتناول طعاماً منذ أيام، وأن جرحاً قديماً في ساعده قد فتح من جديد. وبالرغم من أن قسماً ممن تبقى من مقاتلي تنظيم «داعش» هم من الأطفال أو المصابين، إلا أن التنظيم يرفض الخروج بهدوء من آخر معاقله. وقد قتلت القناصة والعبوات الناسفة ثلاثة جنود من مقاتلي قسد خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى من استئنافهم للحملة، إضافةً إلى جرح سبعة آخرين. وأكد مقاتلو «قسد» أنهم رأوا من خلال المناظير نساءً يحملن السلاح كنّ من بين الذين يحاربون في المعركة، وأن اثنتين من النساء قامتا بعملياتٍ انتحارية في الشهر الماضي. وبحسب قادة العملية العسكرية، فإن جهاديي التنظيم اتجهوا إلى تنفيذ العمليات الانتحارية باستخدام السيارات والدراجات النارية وحتى الهوائية، وقاموا بزرع العبوات الناسفة في الأنفاق التي يستخدمونها للاختباء. كما استخدموا المدنيين كدروع بشرية في مواجهة الغارات الجوية.

وتختتم «الغارديان» تقريرها بوصف واقع الحال في بلدة الباغوز. فمع الأصوات التي تحملها الأجهزة اللاسلكية من خط الجبهة الواقع على بعد 400 متر، والأخبار التي حملها المقاتلون الفارون، يمكن تصور الحال في البلدة. فيصف أحدهم أنه من فوق التلة الواقعة على أطراف الباغوز يوم الأحد الماضي، تمكن من رؤية الأضرار الجسيمة التي خلفتها الغارات الجوية والقصف بشكلٍ واضح، وأن أحد السيارات المفخخة التي فجّرت أمام بوابة أحد المساجد أدت إلى هبوط قبّته. بينما غطى الغبار الأبيض للدمار والأنقاض أزهار الربيع الصفراء والبراعم التي غطت الأشجار. وحملت رمان في أحد المنازل حبات متفحّمة من الرمان، لم تقطف بل تركت لتتعفن على الأغصان. وأغرقت نيران المدفعية والمدافع الرشاشة الربيع وغطّت على أصوات زقزقة العصافير. وكانت النيران التي سببتها غارة جوية في الليلة السابقة على مستودع الأسلحة ما تزال مشتعلة، مرسلةً أعمدةً من الدخان الأسود إلى السماء الزرقاء لتلك الصحراء التي باتت جحيماً حقيقياً.

تحرير: رجا سليم

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.