*د. أحمد يوسف (الحل) – لم يعرف النظام المصرفي السوري سوى مجموعة مصرفية متخصصة تعود ملكيتها للحكومة السورية، بعد إغلاق آخر مصرف خاص في البلد في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وأصبح تطبيق العمليات المصرفية حكراً على تلك المصارف التي لم ترتق إلى مستوى المصارف في الدول المجاورة في حجم الخدمات المصرفية المقدمة من قبلها، نظراً لكونها مصارف صغيرة وغير قادرة على تمويل النشاطات الاقتصادية الكبيرة أو التوسع في قاعدة المستفيدين الصغار من خدماتها المحدودة. وقد كان المصرف التجاري السوري والمصرف العقاري استثناءين في حجم الخدمات المصرفية المقدمة من قبلهما، إذ أن رأسمال المصرف التجاري لوحده كان يشكل ما يتجاوز 75% من إجمالي رأسمال المصارف السورية العامة، وانخفضت تلك النسبة بعد دخول #المصارف #الخاصة إلى السورق السورية لتبلغ فقط 63% من إجمالي رأسمال المصارف العاملة في البلد، كما تغيرت معها قواعد لعبة العمل المصرفي السوري تحت تأثير الضغوطات السياسية والاقتصادية الخارجية.

 

التغيير الإلزامي في المنظومة المصرفية

تركت التغيرات السياسية والاقتصادية العالمية بعد انهيار الكتلة الاشتراكية آثارها الواضحة على #النظام الاقتصادي السوري، واضطرت معها السلطات السياسية السورية إلى إعادة النظر في الكثير من ثوابتها الاقتصادية، وقامت بإجراء تغييرات كبيرة في تلك الثوابت التي تكللت مصرفياً بإصدار القانون 28 لعام 2001 الخاص بتأسيس المصارف الخاصة التقليدية والقانون 35 لعام 2005 الذي سمح بتأسيس مصارف إسلامية في #سوريا لأول مرة في تاريخها.

إن إصدار القانونين أديا إلى تأسيس 14 مصرفاً خاصاً في البلد لغاية بداية الأزمة السورية، منها ثلاثة مصارف إسلامية، وهي بمجملها فروع لمصارف عربية ساهمت فيها رؤوس الأموال السورية بالنسبة التي حددها القانون والذي بلغ في بداية إصدار القانونين المذكورين 51%، إلا أنها تعرضت للتعديل في العام 2010 لتنخفض إلى 40% من إجمالي رأسمال المصرف، وذلك مقابل زيادة حصة المصارف الأم إلى 60%، نظراً لعدم قدرة رؤوس الأموال المحلية على تغطية الزيادة المطلوبة في رأسمال المصارف الخاصة للوصول إلى الحد الأدنى الجديد والبالغ 5 مليار ليرة سورية للمصارف التقليدية بدلاً عن 1.5 مليار ليرة، و15 مليار ليرة للمصارف الإسلامية بدلاً عن 5 مليار ليرة سورية.

كانت لعملية التحويل في نسب المساهمة المحلية والخارجية في إجمالي رأسمال كل مصرفٍ خاص دلالة جيدة على تطوير العمل المصرفي السوري بالاعتماد على توظيف رؤوس الأموال الأجنبية، حيث تبين للمشرع المالي أن رؤوس الأموال المحلية لم تكن قادرة على تفعيل تلك المصارف وتحقيق الملائمة المالية لها. الأمر الذي فرض الاستعانة برؤوس الأموال الخارجية، وفتح السوق المحلية أمام الاستثمارات الأجنبية.

 

أرباح مصرفية، ولكن كيف؟

عند التمعن في الآثار الاقتصادية والمالية للأزمة السورية والتدقيق في حجم الانهيارات التي حصلت على الصعيدين الاقتصادي والمالي ومعرفة حقيقة الأمر، يقف المرء عاجزاً ليس عن تقديم تفسيرات علمية لبقاء المنظومة المصرفية الخاصة في البلد مستمرة في وجودها فحسب، وإنما عن قدرة تلك المصارف على تحقيق الأرباح خلال سنوات الأزمة من نتائج عملياتها المصرفية التي كادت أن تقارب الصفر.

السؤال الذي يطرح نفسه هو، كيف استطاعت هذه المصارف الصغيرة الاستمرار في ظل أزمة كارثية عصفت بالبلد منذ ثماني سنوات وما تزال مستمرة بكل حيثياتها، وذلك على الرغم من حداثة عهدها في السوق السورية؟

الحقيقة إن الإجابة على هذا السؤال تشبه الغوص في عملية معقدة لمعرفة أسرار لغزٍ تجاهله الأجيال في عالم مجهول. فالحالة المصرفية السورية عموماً والخاصة بشكل خاص، قد دخل في نفق مظلم مع انطلاقة الحراك السوري الذي اتجه بالبلد نحو المجهول، حيث أن إخفاء الحقائق المعروفة عن سلوكيات العمل المصرفي، والتي كانت تظهر عبر تقارير سنوية واضحة نسبياً بات أمراً اعتيادياً، لا بل مطلوباً.

إن هذا الأمر بات جلياً في التقارير السنوية الصادرة عن المصرف المركزي التي اقتصرت صدورها بصورتها الاعتيادية والمفيدة في مرحلة ما بعد الأزمة على عام 2011 فقط، وسرعان ما تحولت في شكلها ومضمونها إلى تقارير أقرب إلى المواضيع الإنشائية منها إلى توصيف حالة المنظومة المصرفية السورية بالأرقام المؤشرة على الواقع المالي والاقتصادي في البلد. ولم يأت ذلك الأسلوب الجديد في إعداد التقارير إلا بعد تيقن إدارة السياسة النقدية في البلد على عدم قدرتها على إعداد التقارير بأسلوبها المعتاد عليها في ظل تغير الكثير من المعطيات على الأرض وتغير الحالة الاقتصادية التي استوجبت إخفاء الكثير من جوانبها من متخذي القرار في السلطة حرصاً على إبراز الوجه غير الحقيقي للمأساة السورية اقتصادياً.

إن استدلال المدلولات السلبية لعملية الإعداد الجديدة للتقارير الوصفية يظهر جلياً خلال في الذي حصل في التطور الكمي والنوعي للمصارف الخاصة على مدى ثماني سنوات من عمر الأزمة، وتطور مستوى السحوبات الشهرية من أقل من 200 مليون ليرة سورية في عام 2012 إلى أكثر من 750 مليون ليرة في عام 2015م، وانهيار قيمة الليرة السورية التي تتآكل معها الأرباح التي تحققها المؤسسات الخدمية في حال استمرارها في عملها بصورتها التقليدية والقانونية.

 

أين حساسية المصارف السورية من الأزمات

يؤكد استمرار المنظومة المصرفية الخاصة (التقليدية والإسلامية) في سوريا خلال سنوات الأزمة وعدم تعرضها لموجات الإفلاس، بالرغم من المعطيات السلبية لمؤشرات سلامة العمل المصرفي ومؤشرات الاقتصاد الكلي، على وجود مقومات استمرار غير واضحة للرأي العام، ويزيد من الشكوك بتنمية نشاطات غير قانونية، سواء عبر عمليات سرية أو عبر سياسات توافقية مع الإدارة المسؤولة عن تطبيق السياسات النقدية والمالية تفادياً لتحقيق الإفلاسات التي لا شك ستكون حدوثها بمثابة ضربات قاضية ليس للمنظومة المصرفية فحسب، وإنما للمنظومة الاقتصادية كلها.

إن تحقيق الأرباح وتوزيعها على المساهمين في ظروف التوقف شبه التام للسياسات الائتمانية تؤكد الشكوك الدائرة حول لغز العمل المصرفي الخاص في سوريا، ذلك اللغز الذي يظهر من خلال سير تلك المصارف وفق مسارات غير اعتيادية عالمياً، إذ أن المتعارف عالمياً هو الحساسية المفرطة للمصارف اتجاه الأزمات، وهذا ما لم يتم ملاحظته في المنظومة المصرفية الخاصة في سوريا. كيف ذلك؟

أمام موجة التضخم الجامحة التي ضربت الاقتصاد السوري وما نجم عنها من انهيار متسارع لسعر صرف العملة المحلية أمام العملات الأجنبية وبقاء معدلات الفائدة الائتمانية ثابتة، لا يمكن للمصارف الخاصة أن تحمي نفسها من تحقيق الخسارة بالعمليات المصرفية الاعتيادية، والتي تأتي في مقدمتها تنفيذ خططها الائتمانية مقابل معدلات الفائدة التي لا تتجاوز 9% من قيمة القروض الممنوحة من قبلها سنوياً. إذ أن تلك المعدلاتلا تغطي جزءاً من معدلات التضخم النقدي، لذلك ليس أمام المتابع لشأن هذه المصارف إلا استنتاج استفادتها من ارتفاع أسعار العملات الأجنبية مقابل الليرة السورية والدخول إلى سوق صرف العملات بصفتي البائع والمشتري، وبأساليب غير واضحة، ولا شك أنها استفادت من القرار رقم 5938 الصادر عن رئاس مجلس الوزراء في أيار 2011م والقاضي بتخفيض الاحتياطي القانوني للودائع من 10% إلى 5%، حيث أصبح بإمكان تلك المصارف استثمار الفروقات الناجمة لصالحها بموجب القرار المذكور في عمليات نقدية غير رسمية.

كما يتوقع أن تبعية المصارف الخاصة السورية لمصارف عربية كبيرة نسبياً ساعدتها على إمكانية التعامل بالعملات الأجنبية بصورةٍ أكثر سهولة وتحقيق فوائض نقدية مناسبة من عمليات المضاربة في السوق الموازية للعملات الأجنبية.

يؤكد تعايش المتناقضات الاقتصادية والمالية ولا سيما المصرفية الخاصة في ظل الأزمة السورية التي طال أمدها على تراكم الألغاز العاصية على التفكيك في الظروف الراهنة، وتبقى قدرات المحللين أسيرة بعض الأرقام والمعلومات النادرة وغير الموثقة غالباً ورهينة الزمن الذي لا شك أنه سيكون بمثابة ويكليكس الأزمة السورية ومنظومتها المصرفية في القادم من الأيام.

 

*كاتب وأكاديمي كردي سوري، عمل عضواً في الهيئة التدريسية في جامعات سورية في الاقتصاد المالي والنقدي، وله العديد من المقالات والأبحاث والكتب المنشورة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.