كالغريق المتعلّق بقشّة، تحاول الحكومة السورية النجاة، مما يتيسر لها، من تداعيات قانون قيصر الذي يدخل حيّز التنفيذ اعتباراً من 17 حزيران الجاري، تارةً بضخّ ما يمكن ضخّه من عملاتٍ أجنبية، أخذتها من جيوب كبار تجاره، علّها تساهم بالحَدّ من انهيار قيمة الليرة السورية، وتارةً أخرى؛ بتوزيع الاتهامات يُمنةً ويُسرة على أطرافٍ محلية تتهمها بالنزوع للانفصال، والسير في ركب مشاريع الدول الكبرى.

بات في حكم المؤكد أنّ دمشق ستواجه أياماً حالكة السواد، وسيكون عليها انتظار ضغوطات شعبية من الموالين، وكذلك من ساكني مناطق سيطرتها التي توسّعت بشكلٍ مضطرد منذ التدخل العسكري الروسي المباشر أواخر 2015 وقضم ما أمكن من مناطق سيطرة الفصائل المسلحة السورية التابعة لتركيا.

وقد بدأ الحراك بالفعل من الجنوب السوري، وتحديداً في السويداء، حيث بدأت تشهد تظاهرات ترفض الوضع المعيشي القائم، وفي بعض الأحياء والأحيان منددة بالحكومة السورية، في مدينةٍ بالغة الحساسية والتعقيد، بسبب قربها الجغرافي من إسرائيل، والنظام الإداري المتبع في حكمها منذ بداية الأحداث في سوريا، وكذلك التنوع الطائفي الخاضع لاعتبارات إقليمية ودولية.

التجمع البشري الكبير داخل مناطق الحكومة السورية، ربما سيكون له تداعيات سلبية كبيرة على استقرار حكم الرئيس السوري بشار الأسد، ومن المتوقع أن يزداد جيش العاطلين عن العمل، وأن تصل نسبة الفقراء إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، حيث سيمنع القانون التعاملات التجارية مع الحكومة السورية، ويهدّد بمقاضاة الشركات والدول والأفراد التي تخرق العقوبات، لفترة 5 سنوات، ويمنح القانون الرئيس الأميركي الحق برفع العقوبات  لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأميركي، أو في حال لمس جدية في التفاوض من قبل الحكومة السورية، بشرط وقف الدعم العسكري الروسي والإيراني لها.

بالإضافة إلى أن القانون ينص أنه خلال مدة أقصاها 180 يوماً من دخوله حيز التنفيذ، فإن وزير الخزانة الأميركية سيحدد فيما إذا كان المصرف المركزي السوري يقوم بتبييض الأموال، وبالتالي فإن المرحلة الثانية من تطبيق القانون ربما تكون أشد وطأة من سابقتها، حيث من المتوقع حينها أن تفرض عقوبات على “المركزي السوري”.

الوضع المتهالك الذي يواجهه الاقتصاد السوري، يسبق تطبيق القانون، وبدأ بشكلٍ فعلي أواخر العام الماضي، فالليرة السورية فقدت جزءاً كبيراً من قيمتها منذ ذلك الحين، والنزاعات بين أركان الاقتصاد السوري بدأت بالفعل مذ ذاك، وهو ما تجلى في إجراءات حكومية سورية بما يشبه ما فعله ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع عدد من أفراد العائلة المالكة، حين احتجزهم في فندق (الريتز كارلتون) أواخر 2017.

اضطر ّعدد كبير منهم، على مضض، لإجراء تسوية مع الحكومة، إلا أن إمبراطور الاقتصاد الجديد، وابن خال الرئيس السوري وجد نفسه في موقع يستطيع فيه التمرد على القرار، والنأي بنفسه عن الصراعات الدائرة، بحكم “الخدمات المالية والعسكرية” التي قدمها للحكومة السورية، لكن تفاهمات المرحلة السابقة لم تكن صالحة للاستمرار في الوقت الراهن، وكان مخلوف من ضحايا الواقع الجديد.

التنافس بين آل الأخرس وآل مخلوف، هو أكثر ما يؤرق أركان نظام حكم الرئيس السوري بشار الأسد، فقد كانت السيدة الأولى السابقة أنيسة مخلوف هي من نسجت خيوط الحلف الاقتصادي بين عميد عائلتها وشقيقها محمد مخلوف، وبين آل الأسد، وقد ورث ابنه رامي إمبراطوريته الاقتصادية، بعد تقاعد والده، ولمع نجمه بسرعة قياسية، وأصبح الفساد الاقتصادي السوري مرتبطاً بشكل رئيسي برامي مخلوف، وهو ما شجّع أركان الحكم، ومنها السيدة الأولى الجديدة أسماء الأخرس، على التعامل مع رامي ككبش فداء، وضرب عصفورين بحجر واحد، حيث التخلص منه، واستبداله بعائلة الأخرس، وتهيئة الظروف لما قد يسمح بتوريث الحكم مستقبلاً لابنها البكر حافظ الثاني.

التضحية برامي مخلوف، ساهمت بشكلٍ كبير في انخفاض قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وما كان يترافق مع كل إطلالة إعلامية له على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث بدت نبرته تتصاعد في كل مرة، إلى أن بات ينذر بكوارث آتية على البلاد فيما لو لم يتم تسوية ملفاته الاقتصادية، والانتهاء مما أسماه بتدخل جهات معينة للتخلص من دوره في الحياة الاقتصادية داخل منظومة الحكم السورية، وخصوصاً في شركة سيريتل للهاتف الخلوي، وكذلك جمعية البستان التي تنشط تحت المسمى الخيري.

الحكومة السورية شنت حربها الأخرى على الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا، وهي التي تتضرّر كذلك من تداعيات انهيار قيمة العملة السورية، حيث يعيش ما يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة في مناطقها، وتواجه خطر الهجمات التركية بين الحين والآخر، دون أي ضمانات حقيقية من حلفائها على تحييدها عن مجال العقوبات.

تتهم دمشق الإدارة الذاتية بأنها جزء من آلة العقوبات الأميركية المطبقة عليها، وساعية للانفصال عن سوريا، عبر تطبيق مشروع أميركي داخل الأراضي السورية، على الرغم من تضرر سكان شمال وشرقي سوريا، كما سكان الداخل السوري، من الوضع الاقتصادي المتردي، وتمسُّك سلطات الإدارة الذاتية باستمرار بالتعامل بالليرة السورية، رغم حالة عدم الاستقرار التي تعيشها، في الوقت الذي قرّرت فيها الحكومة التركية فرض التعامل التدريجي بالليرة التركية على المناطق التي تديرها في الشمال السوري.

تتعامل الحكومة السورية مع الإدارة الذاتية بوصفها أداةً لتنفيذ جميع الأجندات الأميركية في سوريا، من اتهامات الانفصال إلى كونها جزءاً من المشروع الأميركي لمنع الحكومة السورية من الوصول للموارد النفطية والمائية، ومع قانون قيصر بوصفه السبب الأوحد لحالة انهيار الاقتصاد الوطني، دون الاعتراف بالأسباب البنوية الحقيقية داخل منظومة الحكم، والتي وصلت إلى مرحلة التآكل، بعد عقود من الزواج الكاثوليكي بين أقطاب اقتصادية وأمنية وعسكرية اختلفت مصالحهم الآن.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.