حين تقع حوادث ومناوشات عابرة بين جماعاتٍ ودول، نكتشِفُ ما هو أعمق من الحادثة نفسها، تماماً مثلما تؤدي عمليات جراحيّة بسيطة أحياناً إلى كشف مَرضٍ عضال لم يكن بالحسبان.

وِفقَ هذه القاعدة؛ تسير العلاقات بين شعبٍ وآخر، فكيف إذا كانت هذه العلاقات تخصّ بلاد التورِية والإدغام، ووَرَثة ثقافة زخرفة المعاني على حساب المُباشرة في القول والإفهام؟.

لعلّ تكنيس الحساسيات وإخفاءها تحت سجّادة الأُخوّة، هو أكثر ما يُمَيّز دول المشرق العربي، وإذا أردنا أمثلة على ذلك؛ فسنحتاج لكُتُبٍ لا لمقالات. لكنّ أقرب مثال، هو ما صدَرَ عن مُغرّدين وناشري محتوى سعوديين هاجموا سيطرة «الإعلاميين الغرباء» على قنواتهم التلفزيونية.

وقد جاءت الشرارة بعد خبر انضمام إعلامي لبناني إلى مشروع قناة جديدة تتبع لـ “المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق”. وبدا أن إطار الهجوم سياسيّ يتعلق بالموقف من السعوديّة و”حزب الله” وحسب.

غير أنّ تكملة الحكاية، كانت في مكانٍ آخر أفصَحَ عنه بعض الغاضبين بدعوتهم إلى: «طرد الأجانب، والاعتماد على خبرات أبناء البلد، والتخلص من عقدة البَدوِي الذي يستورِد وُجوهاً حضارية قادمة من بلاد الشام».

تَستبطن هذه الفكرة، جَبَلاً من التراكمات النفسية المُمتدّة تاريخياّ منذ تشكّل الدولة الوطنية عربيّاً (ما بعد الاستعمار)، واكتشاف النفط، وما أنتجه من تحوّلاتٍ جذرية في المنطقة رسّخت وقائع وبُنى مجتمعيّة، إثر استقدام اليد العاملة الأجنبية إلى الخليج للمساهمة في بناء مختلف القطاعات. وكان من بين الخبرات المُستقدمة لبنانيون وسوريون وجنسياتٌ أخرى طبعاً.

ورغم وجود روابط أخويّة وتقاطعات ثقافية بين “الشّوام” وبين الخليجيين، فإنّ بُعدَاً نفسيّاً مَخفيّاً موازياً لهذه العلاقة حافظ على حرارته جَمْراً تحت رماد الابتسامات.

وكحال كلّ المجتمعات التي ترفض تبريد حساسياتها الإثنية والطائفية والطبقية عبر نقلها إلى عالم الفنّ والحكايات والطرائف، فإن “عُقدة البداوة” ظلّت تتصلّب كمشاعر مُبيّتة عند مكونات أبناء المشرق العربي. ويمكن اختصار هذه العُقدة بـ «الصراع الضمني بين من يملكون تاريخاً ويفتقدون للحاضر، وبين من يملكون حاضراً ويفتقدون للتاريخ».

أي أنّ “البداوة” لم تقِف عند معناها البسيط كتعبيرٍ عن أحد أشكال الاجتماع البشري، بل أصبحت أداةً لتنميط مجموعةٍ من الناس، أو للدفاع ضد هذا التنميط.

وقد يُقال إن قِسمةً من هذا النوع لا تَصحّ بما أن البدو يُشكّلون إحدى مكوّنات بلاد الشام نفسها، لكنّ الواقع شيء والحساسية النائمة شيءٌ آخر.

وقد نصادف مثلاً الكثير من المواقف التي تفشي شعوراً بالتفوّق عند لبنانيٍّ يناقش مدى لبنانيّة “عشائر العرب” في عكّار والبقاع الشمالي ووادي خالد”. أو سوريٍّ يُرجِع ما حلَّ بوطنه من خراب إلى «فئات قبَليّة غير متحضرة في دير الزور أو البوكمال تَسهُل دعشنتها ودفعها للإرهاب كونها لا تنتمي إلى سوريا وريثة السريانية والآرامية»، حسب رأيه.

ولكي تتفجّر هذه الهويات بعنفها وهذياناتها، فلم يكن ينقصها سوى موجات «الربيع العربي» وهزّاتها السياسية والعسكرية التي ضربت المنطقة، فظهرت تنظيرات تحاول الترويج لأفكار«المدنيّة السوريّة العلمانية التي غزاها الإسلام العربي البدوي»، وهو ما اختزله الباحث “نبيل فياض” حينَ عنوَنَ كتاباً صادراً له، يُهاجم فيه تخلّف العرب بعنوان (كمشة بدو)، وذلك قبل أن يَعترِض عليه الناشر، ويتمّ تعديله ليصبح عنوان الكتاب (زمن معاوية).

وبعيداً من ذلك، كان “أهل الخليج” يدخلون زمناً آخر، متأثّرين بالمتغيرات الجارية، وبخططهم الاقتصادية لمرحلة ما بعد النفط.

وعقب رُسوّ الاصطفافات السياسية على ما هي عليه اليوم، ارتسمت ملامح خارطة انتماءات جديدة تقوم على الفرز بين: «عَرَب يَعتزون بعروبتهم البدوية وإرثهم المستمد من الإسلام السنّي، ويقولون بضرورة اتّباع توجيهات وُلاة الأمر(الملِك أو الرئيس) ورفض التغيير»، وبينَ “أهل الشام” الذين يعيشون مرحلة تفسّخ الدولة الوطنية ميليشيويّاً واقتصادياً وإيديولوجياًّ، لتتلوّن سوريّتهم ولبنانيتهم وفلسطينيتهم بألوان الممانعة والأخونة والعثمنة وسواها، وليصبحَ هجوم بعضهم المُتواتر على “البداوة” انتقاماً قهريّاً، ومُداواةً لعَطَب الانتماء الوطني.

هكذا، فقدت وتفقد بلدان المشرق العربي معاني العروبة بصيغتها الكلاسيكية، لتبدو متّجهةً أكثر فأكثر كي تصبح عبارة عن فاشيات صغيرة تختبىء خلف ردّاتٍ تاريخية، أو خلف أبراجٍ واستثماراتٍ ماليةٍ ضخمة.

وكلّما اشتدّت الأزمات السياسية بين هذه الدول أو مع الجِّوار، ستظهر أعراضٌ إضافية تؤكّد فشل تجارب عرب آسيا بالوصول إلى نموذج الدولة الحديثة الحاضنة لمكوّناتها ولضيوفها بصفتهم الإنسانية لا بصفتهم «جماعات متخلفة مثيرة للشفقة» أو «عَمالة وافدة» تنتظر طردها.

وحتى لو بقي هناك هوية جامعة شكليّاً، فلن يوقِفَ ذلك تكاثر عصبيّات جديدة تحتها تتغذى من الاستفزازت ومن تفاوت الأوضاع والاضطرابات وتباين الخيارات.

وفي مقابل كاتب يَخرُج بعنوان كتاب يزدري البدو، ويرى أن دورهم وتأثيرهم لا يتجاوز “الكمشة” (قبضة اليد)، فلربما نشاهد من يَردّ عليه بالتباهي بشرب بول البعير، واعتباره خاصية ثقافية تغيظ «الأعداء».


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.