«أيها الشعب السوري الطيّب. لحظة من فضلك. أنظر هناك. نحو الشمال. إلى الشمال الغربي قليلاً. تماماً. هل شاهدتها؟ ابتسم. إنها الكاميرا الخفية لائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية».

هكذا يبدو الأمر. كيانٌ سياسيّ يعطي انطباعاً وكأنه يقوم بحركات يجرّب بها ردود أفعال الناس. هل من المعقول أن تكون “خفة دم” الائتلاف هي التي تُورّطه بإصدار بيانات ومبادرات من وقت لآخر؟ وإنْ لم تكن كذلك فما السبب؟

ربما سوء تقدير، أو ضعف تنسيق، أو سيطرة تيار، أو تولّي أدمن فيسبوكي معتاد على أسلوب “نشر، تعديل، تخصيص المنشور” لمَهامٍ إدارية عديدة، أو ربما لا تتعدى المسألة عبث أطفال وأبناء الأعضاء بالأوراق الرسميّة قبل تعميمها، مثلاً!.

الباب مفتوح لاحتمالاتٍ تحاول تفسير قرارات الائتلاف، فعلى سبيل المثال حين يُعلن مشاركته بالانتخابات الرئاسية السورية، ثم يتراجع، فمِنَ الطبيعي أن يُفاجىء السوريّ -أياً يكن توجهه- بطريقة وتوقيت وظروف هذه الاندفاعة، فهي تحمل رائحة ثقة زائدة بالنفس، نظراً لأننا أمام جسم سياسي عليه بدايةً أن يفتح عينيه، ويحرّك أطرافه، ويتكلم على مدار ثلاثة أيام متواصلة كي يثبت أنه على قيد الحياة، ثم بعدها نستطيع مناقشة إمكانية حضوره للعرس الديمقراطي بصفته عريساً أو مطرباً أو ضارب طبل.

لا بدّ من تحقيق شرط أن يكون”غير متوفي”، وإثبات وجوده بما يَفوقُ دور “اتحاد الفلاحين” و”نقابات العمال” التابعين لنظام الأسد، لننتقل إلى النقطة التالية وهي السعي لتمثيل جميع السوريين ولو بالكلام، مع أن هذا الأمر صعب على ائتلاف لم يستطع تمثيل المعارضين بالحدّ الأدنى.

طالما أن الحال كذلك، فالسؤال البديهي هو: «مَن يقف حقاً خلف هذا الإعلان”؟ وما الذي يدفع لمغامرة غير محسوبة مع الرأي العام تستدعي التراجع والتبرير والتأويل؟».

هناك من يقرأ خطوة الائتلاف على أنها جسّ نبض، أو محاولة لحجز مقعد مبدئي في المشهد السوري القادم بما يلغي طبيعته المؤقتة، فيحوُّله إما إلى جزء من النظام المُعاد تشكيله أو تأهيله في دمشق، أو إلى “منظمة تحرير” تناضل إلى الأبد، وتستمرّ باسم “الوفاء للتضحيات”.

بالتأكيد سيطمح أي سياسي ائتلافي معارض لأن يكون أكثر من مجرد “محمود عباس”، ولكنّه لن يمانع أيضاً حين تنسدّ آفاق الحل أن يصبح عبارة عن “إسماعيل هنية” بشرعيّة موازية تمنحه صلاحيات إضافية بوصفه رئيساً ثانياً يقود “السوريين المحاصرين والمعذبين والهاربين من حضن النظام”.

كل التحليلات محكومة بالنهاية بصراع النفوذ الروسي-الإيراني- التركي، وبفرضية دخول أطراف جديدة على خط التأثير في سوريا في مرحلة لاحقة.

وعليه، ينبغي التعامل وفق هذه القاعدة، والإقرار قبل كل شيء بأن أي تغيير سياسي مُقبل سيبقى في إطار تقاسم أو تعزيز أو تحجيم الأدوار، سواء جرت الانتخابات الرئاسية تحت مظلة مخابراتية أسدية أو بإشراف أممي، ليكون أمل الناس بالتالي هو إنتاج تشكيلات سياسيّة تستطيع التعاطي مع اللاعبين الإقليميين والدوليين دون تسليم مقدّرات البلد لهم، بل ضبط أدوارهم استعداداً لإنهائها، ووقف الجوع والنزيف والموت متعدد الأشكال على الأرض السورية أو على أراضي وجبهات الآخرين.

بمَنطِق “الممكن” و”المتاح” قد يتسنى للسوريين الحلم بالتنفس والحياة، أما بالنسبة لتحقيق العدالة، فلنْ يمانع أي سوري أن تضع المعارضة ثقلها بعد أن يصبح لها وزن حقيقي وكلمة مسموعة تُمكّنها من محاسبة الأسد وكل فصيل أو ميليشيا ارتكبت الجرائم، المهم ألا تظلّ عنتريات “اجتثاث النظام” عنواناً وحيداً للمعارضين “صُنّاع الملاحم” ممّن لا مشروع أو برنامج عمل لهم سوى سعيهم لاستمرار المأساة وبقاء ميزانياتهم بموجبها، فهؤلاء ذاقوا عسل “اقتصاد الحرب” واختبروا نِعمة العيش في ظل “قضيّة” لا سقف زمنياً لتقييم إنجازهم أو فشلهم فيها.

وحدهُ الظرف الواقعي الملطخ بطِين المخيمات، وبماءٍ تسلل إلى داخل أحذية المصطفين في الطوابير ما يَجب أن يُحرّك المشاركين في استحقاقات سياسية قادمة، فالبلد اليوم مُفتت ينتظر مَن يسنده لينهض على قدميه، لا من يجعله رهينة لنوستالجيا مستعادة من 2011 أو لمستقبل بعيد يتوسّل المعجزات.

سوريا ليست بحاجة لمَنْ ينتقم لـ “الدم السني” الذي استثمرته دول المنطقة خدمةً لصراعاتها، ولا لمَنْ يُعوّض العلويين عن تقديم أبنائهم قرابين لبقاء النظام. هي تحتاج لعقلاء لديهم طموح يتجاوز فكرة السفر والإقامة في فنادق فخمة باسمِ انعقاد المؤتمرات، ولا تحتاج لحكومة ائتلافٍ معارض ترفع شعار المساواة لكل السوريين، ثم تصدر بياناً وإعلاناً للتوظيف في إحدى هيئاتها وتضع بند القومية كشرطٍ أساسي دون باقي القوميات الأُخَر.

لا ديغول ولا مانديلا سَيَخرُج من سوريا حالياً، لكن هذا البلد التعيس يستحق على الأقل ما هو أفضل من محترفي التباهي بحجم الضحايا وتحويل الجراح إلى معرض فني، وعَدّ الأيام والشهور مراراً وتكراراً بطريقة هذيانية تبشيراً بسقوط النظام الدرامي والمؤكد!. تستحق سوريا قوى تغيير لديها الجديّة، فقد تعبت البلاد من المهووسين بالسُلطة صنّاع البراميل المتفجرة، وبُناة المعتقلات، ورعاة التطرف، ومنفذي سياسات الانتدابات. هل يَعي الائتلاف ذلك؟ ليته يدرك أيضاً أن السوريين لا يحتملون اختبار صبرهم بقرارات غائمة ومبادرات مواربة تبدو ككاميرا خفية تُصوّر ملامح غضبهم واحتجاجهم.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.