يغدو خبر الرحيل مفجعاً بقدر ما هو مفاجئ، كما أن الفاجعة هي فيما تنطوي عليه من خسارة، وعلى هذا يحق لنا أن نسمي خسارتنا المخرج السوري حاتم علي بالخبر المفجع.

يحق لنا نحن من تابعنا أعماله، وراقبنا شخصياتها، وتذكرنا حواراتها… اختلفنا أو اتفقنا معها… نحن من استطاع علي أن ينقلنا في كثير من الأحيان إلى داخل الشاشة، بعد أن قضينا زمناً خارجها، نتلقى منها الوعظ والتوجيه، يحق لنا الشعور بالخسارة والفقدان، ذاك أننا (وكاتب هذه السطور لا يدعي حياداً فيما يكتب) نفقد مع حاتم علي جزءاً من ذاكرتنا، وتفاصيل من حياتنا اليومية والعائلية، إذ استطاع الراحل على مدى سنوات أن يكون حاضراً، من خلال أعماله، وفي هذا تفردٌ له، بغض النظر عن الخلاف في مستوى المنجز الفني الذي قدمه، أو في مستوى ما يحب بعضهم تسميته “الدراما السورية”.

تشكّل تجربة علي امتداداً لتجارب جيل سابق من المخرجين التلفزيونيين السوريين، من أبرز أسمائها غسان جبري وعلاء الدين كوكش وهيثم حقي، وبهذا استند علي في ما قدمه على أساسيات سابقة ثم استكمل مستفيداً من التقنيات البصرية والجمالية التي فرضها الزمن وتطور أدوات الإضاءة والتصوير.

غير أن ما برز في أعمال حاتم علي أيضاً هي عناصر التكامل ما بين النص والإخراج، فشكّلت شراكته مع الراحل ممدوح عدوان في الزير سالم مطلع الألفية إنقاذاً للمسلسل التاريخي من عملية اجترار “الفنتازيا التاريخية” التي فاضت عن حدّها خلال عقد التسعينات، بعد هذا سيشكل التعاون بين حاتم علي والكاتب وليد سيف قيمة مضافة للنص المكتوب للتلفاز وطريقة إخراجه، إذ تعتبر ثلاثية الأندلس التي قدمها الثنائي من أهم ما قُدّم على صعيد الدراما التاريخية، إن كان من حيث النص وغناه أو من حيث الإخراج والمعالجة.

كذلك كان مسلسل “التغريبة الفلسطينية” والذي عرض لهزيمة عام 1948، وفيه عالج علي بحساسية العارف والمجرّب نصاً يتناول التاريخ المعاصر والذي كان هو شخصياً أحد ضحاياه، بعد أن نزحت عائلته من قريتها فيق في الجولان السوري بعد احتلالها إثر هزيمة 1967.

كما أن ما قدمه علي في الدراما الاجتماعية المعاصرة من أعمال تعاون فيها مع دلع الرحبي وريم حنا وأمل حنا… ستغدو العلامة الفارقة التي تميز عمله في ذاكرة المشاهد، إذ رسمت هذه الأعمال بشكل أو بآخر صورة عن بلاد مشتهاة، أو بلاد تمنى السوريون لها أن تكون بلادهم مطلع هذا القرن، واستطاع علي أن ينقل من خلالها تفاصيل عن حياة السوريين، ونقاشاتهم، وخلافاتهم، ومشاكلهم، وأجوائهم العائلية، وظهر في أعماله أن مجتمعاً سادت فيه صورة النظام السياسي المتسلط الصارم وفرط الجدية والالتزام، يمكن له أن يحتفظ بإنسانية حياته اليومية ومشاكلها وتقلباتها، كما يمكن له أن يحتال عليها، بغض النظر عن الاتفاق مع ما حملته هذه الأعمال من أفكار، أو ما دافعت عنه من قيم نختلف أو نتفق عليها.

ما قدمه حاتم علي كمخرج بالتحديد في التلفزيون صنع العلامة الفارقة التي يشعر الجميع اليوم بفقدها، إذ أن أعماله باتت وثيقة يرجع لها جيل كامل شرّدته الحروب وابتلعته المنافي، وفي هذا السياق يُفهم الحزن على حاتم علي حزناً على الذات والذاكرة والعائلة والأهل والأحباب والشوارع والموسيقا…، ذاك أن كل التفاصيل السابقة لم تتردد حساسية حاتم علي الفنية أن تحفظها، وهنا بالتحديد يكمن هذا الأسى والأسف والفقد المرّ. ليس فقط من خلال أعماله الفنية بل ربما في صمته ورحيله وحيداً عابراً في غرفة فندق يتماهى المشاهدون السوريون الهاربون في أربع جهات الأرض مع حاتم علي ويقدّرون معنى الألم…

ربما ليس من المهم اليوم متابعة السجالات النقدية ومقالات المدح أو الهجاء التي سيثيرها خبر الرحيل، ذاك أن الأصدق منها حزن مشاهد صامت ومنزو في غرفته وحيداً كما حاتم علي، ربما هذا ما نسميه الأسف !.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.