نحو 9 أشهر، تفصل العراقيين عن الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي من المفترض أن تأتي ثمارها وتغيّر الساسة وتخلخل حكم الأحزاب التقليدية في بلاد الرافدين، بما ينسجم مع أهداف انتفاضة “تشرين”، التي دعمتها مرجعية السيد علي السيستاني وقلة من القوى الوطنية والسياسية، ورغم أن الانتخابات حُدِّدت في 10 أكتوبر المقبل، إلا أن متنبئين وبعض البرلمانيين يرون أن التأجيل هو المصير الواقعي للانتخابات، واستمرار الحكومة الحالية في أعمالها حتى نهاية الدورة الحالية لمجلس النواب.

وفي الحالتين، يعني لو أنها أجريت في موعدها المقرر أو دفعها إلى مطلع 2022، فإن العراقيين أمام شهور جديدة من الأزمات المالية والإخفاقات الإدارية والفضائح السياسية وتردّي الخدمات، ناهيك عن قلق الرواتب.

وأمام ساسة “المنطقة الخضراء” رحلة مناورات وصراعات مع بعضهم من جهة، ومع الشعب من جهة ثانية، ومع صواريخ “فصائل المقاومة” من جهة ثالثة، أما المجتمع الدولي، فهو أمام فصلٍ جديد من مسرحية العراق.

لدينا حالياً في العراق، مئات الكيانات السياسية الجديدة، وأكثر من 80 بالمائة منها تنحدر من أصول معروفة، وهي أحزاب السلطة القديمة، وهذا ليس عيباً أو محرماً، إنما هذه هي الديمقراطية، ولدينا أيضاً أكثر من 15 كياناً وُجِد من المتظاهرين المدنيين، وأطراف علمانية أخرى، ولكن هل لدينا ناخبين؟

لا يبدو أن لدينا الجماهير المستعدة للانتخاب في الظروف الراهنة، كما لا تبدو الأجواء طرية للدرجة التي ستدفع العراقيين إلى الاستيقاظ صباحاً يوم فتح مراكز الاقتراع، وبدء عملية التصويت للكيانات المتوفرة، إذ تغيبُ المشاعر الشعبية واللهفة في معرفة الفائزين، وحتى الكيانات السياسية، لا تظهر عليها علامات الحماس التنافسي للصعود إلى البرلمان، يستثنى من كل ما تقدم، التيار الصدري، الذي يخوض منذ أكثر من شهرين حملته لتحديث بطاقات الناخبين.

هذا الركود الشعبي، والسخرية من العمل السياسي والإيمان بانتظار المخلص القوي للعراق والعراقيين، والجزع، وتنامي الشعور باللاجدوى إضافة إلى التقلبات العاطفية، يشير إلى أن الحالة الشعبية العراقية تمرُّ بأصعب مراحلها، وأنها بداية قد تطيح بالبلاد لأربع سنواتٍ جديدة، ببقاء نفس الوجوه مع تبدّلٍ في وظائفها، أو عبر حكمٍ فوضوي جديد، والأخير، هو أمرٌ يجدهُ مراقبون الأقرب إلى الواقع.

تقول مفوضية الانتخابات في أحدث تعليقاتها، إن أعداد العراقيين الذين حدَّثوا البطاقات الانتخابية، فاقت 15 مليون مواطن، وقد تُعلن قريباً عن ارتفاع هذا الرقم إلى 20 مليون، وبالرغم من هذه الأرقام حكومية، وكل رسمي هو غير دقيق، وفق وجهة النظر العراقية، ولكن هناك ملايين حدَّثوا بطاقاتهم، فهل سيتوجه هذا العدد الهائل من العراقيين نحو صناديق الاقتراع؟ الأهم، هل هذه الملايين جاهزة لتحديد شكل “عراق ما بعد تشرين”؟

واحدة من إشكاليات المفكر والكاتب السوري جورج طرابيشي في مسألة تطبيق الديمقراطية في الدول العربية الحديثة هي إشكالية “المفتاح والتاج”، حيث يرفض طرابيشي أن تكون الانتخابات كما تتصورها النخب العربية بمثابة “المفتاح” لحل الأزمات والصراعات وكأنها حلٌّ سحري وجذري لكافة الصراعات السياسية.

طرابيشي يعتبر أن الانتخابات هي “التاج” وليست “المفتاح”، بمعنى أن من خلالها تُختتم مراحل طويلة من التهيئة لتثبيت أركان الدولة الحديثة وليست “المفتاح” لتلك المراحل، وبالتالي فإنها نتيجة لا شرط، وإساءة فهم هذه النقطة قد تؤدي بالديمقراطية في بعض التجارب إلى نتائج “كارثية”، وليست فردوسية.

هذه الإشكالية، تواجه العراق حالياً، لا سيما وأن كثيراً من العراقيين غير المتحزبين، إضافة إلى غالبية جماهير الأحزاب التقليدية، يظنون أن الأزمات الكبيرة في البلاد، مثل التراجع الاقتصادي وتدهوّر الزراعة والصناعة، والقضاء على الفساد ورموزه، والسيطرة على السلاح المنفلت والمجرمين، حلّه بإجراء الانتخابات، فهل يمكن أن نصل إلى “التاج” من دون الوصول إلى “المفتاح”؟


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.