الإثنيات والقوميّات في الوطنيّةِ الديمقراطيّة

الإثنيات والقوميّات في الوطنيّةِ الديمقراطيّة

الجلسةُ الحواريّة التي نشرتها مجلة (رُواق ميسلون)  في عددها الأول حول الإثنيات والوطنية الديمقراطية، هي واحدة من أجرأ الجلسات التي تطرقت لموضوع الإثنيات والقوميات في سوريا خلال الآونة الأخيرة على الأقل.

فمن النادر أن تجد مواجهة حقيقية ونَفَسْ شفاف بهذا الموضوع في تداولات ونقاشات النُّخب والمثقفين السوريين؛ رغم الأهمية الجوهرية لهذا الموضوع في تاريخ وحاضر ومستقبل الحياة السياسية والاجتماعية السورية.

المشاركون الستة، عرضوا مقدمات حول رؤيتهم للموضوع، بجانب مواضيع أخرى من منظورٍ أوسع، وخاضوا في حساسية وخطورة تأطير الموضوع الإثني والقومي في منظور الوطنية الجامعة وحقوق المواطنة.

كان التوجه الأكبر، لجهة إبراز المفهوم الليبرالي للمواطنة المعني أولاً بحقوق الفرد كفردٍ ومواطن كحامل بديل أو شامل لإظهار الخصوصية التعددية القومية والإثنية في الوطن والدولة المأمولين.

النَفَس الجريء في هذا التداول الفكري، هو قربه السبّاق لما حول- وليس في صميم- نقطةٍ هامة وهي العقد الاجتماعي بمفهومه الحديث.

في الماضي، مع توماس هوبز مثلاً في كتابه Leviathan -1668، العقد الاجتماعي يتم بين الحاكم والمحكوم ضمن أُطَر محددة لخصها الفيلسوف الإنكليزي، الذي عاش حروباً طويلة ومريرة، بمفهوم (الليڤايثن) وأجيال (الليڤايثن) التي تعيش وتزدهر تحت حكم وسلطة القانون متخليةً عن سلاحها ووضعها في الطبيعة ماقبل المدنية أو القانونية.

في الحاضر، تطوّر هذا المفهوم وأُدخِل عليه تعديلات وتطويرات بدأت من زمن هوبز نفسه كـ َجون لوك وصولاً إلى يومنا هذا مع نظريات الديمقراطية الليبرالية التي كان من رواد تنظيرها جون رولز وإريس ماريون يونغ وآخرين.

التطورات والتعديلات كانت مهتمةً بشكلٍ خاص بحقوق الجماعات والأعراق الاجتماعية والثقافية، حتى حنة آرنت، رائدة الفلسفة السياسية الاشتراكية الديمقراطية، فَرَدَت صفحات في كتابها أصول الشمولية “The Origin of Totalitarianism” لمفهوم هيمنة إيديولوجية واحدة قومية كانت أو دينية على المجتمع والدولة، ورأت أن الأمر من أساسيات الاستبداد والشمولية.

من هنا يأتي حتمية الخوض والغوص في الموضوع الهوياتي والقومي للمجتمع والدولة السورية التي يحلم السوريون ببنائها، فنقطة تأطير الفردية وحقوق الفرد إنسانياً وقانونياً واجتماعياً، هو صميم ما نحتاجه في عملية البناء والتأسيس، هذا الأمر على الرغم من ضرورته وحتمية صيرورته بالحقيقة في زمننا هذا؛ إلا أنه ليس كافٍ للبناء الدائم والمتين.

العقد الاجتماعي الصريح والشفاف، يبدأ من رؤية الواقع والتاريخ بعينٍ مجردة ناقدة لضمان تحقيق المستقبل المتمنى، والصراحة والشفافية تستوجب أولاً، عدم الاعتماد على التاريخ الذي وصلنا بشكل أساسي في رؤية وتصور هذا العقد الاجتماعي، لعدة أسباب أهمها، تعددية المناظير تجاه هذا التاريخ والناتجة عن تعددية القوميات والإثنيات والهويات، فلا يتفق السوريون كلهم على نظرة واحدة تجاه تاريخنا وماهيته.

ثانياً، ذات نظرة الصراحة والشفافية مُلزمة أخلاقياً بالوثوق بالآخر الشريك في المواطنة والوطنية، هو ما تطرق له- بطريقة أخرى- الدكتور حازم نهار في الجلسة عندما فصّلَ في مقدمته مفهوم الوطنية والخيانة والعداء، فالخوف من نزعةٍ قومية إثنية؛ تفترض بالحقيقة عدم الوثوق بالآخر ونظرة مبطّنة ومتوجّسة من عدم وطنية أو مواطنة الآخر.

هذا عدا الحرص المبالغ فيه والتاريخي من طرح وتأطير هذا الموضوع بجرأة نحن بأمسِّ الحاجة لها اليوم. جانبٌ كبير وأساسي من التجنب من طرح موضوع التعددية الإثنية والقومية والهوياتية في المجتمع والسياسة السورية خاصةً و”العربية” عامةً، يحوم حول هذه النظرة والخوف مما تنتجه من خطورة، فيما لو صدقت التوجسات والنظرات المبطنة، وهنا هي الإشكالية الكبرى.

ثالثاً والأهم، حقوق الفرد والإنسان في دولة المواطنة التي طرحها المؤتمرون، تعني حتماً حقوق الأفراد أيضاً، هذا المفهوم انتقده الراحل الكبير إلياس مرقص عندما دعا إلى النظر إلى المجتمع والأفراد كأنسان وفرد واحد، وليس كأحد من أمة وقومية ومجتمع فحسب في كتابه (نقد العقلانية العربية).

ولكن هاتين النظرتين؛ لا تتعاكسان ولا تنفي واحدة الأخرى. مغزى القول أن حقوق الفرد ستستوجب حقوق أفراد، والأفراد هم جماعات وهويات وإثنيات، ومواطنتهم تشمل عناصر كثيرة من بينها، هوياتهم الإثنية والثقافية والدينية أيضاً.

العقد الاجتماعي الحقيقي الذي يقدّس المواطنة والوطنية والذي يبتغي دولة المواطنة الديمقراطية الحقيقية وذات الديمومة، لابد أن يكون جريء وتقدمي في طرحه، هو عقد يسبق الدستور والقوانين الدستورية وهو ما دعا إليه المؤتمرون بمفاهيم ما فوق دستورية.

الدستور ينصُّ ويحمي ويؤكّد على المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية، وما إلى ذلك من مفاهيم دستورية وطنية وديمقراطية. ولكن البناء الدائم والمتين لهذا الدستور؛ يستند أولاً وأساساً على الوثيقة ماقبل الدستورية وما فوق دستورية، وهي ذاك العقد الاجتماعي الصريح والجريء الكفيل بوضع حجر أساس صلب يرثه من بعدنا أولادنا وأحفادنا وأجيال المستقبل ويكون صمام أمان مواطنة لوطنٍ ديمقراطيٍ تعددي وحقيقي.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.