يمكن اعتبار منطقة شمال شرقي سوريا من أكثر المناطق تعقيداً وتأثيراً وحساسيةً في الملف السوري، نظراً لما تشهده المنطقة من تواجدٍ لمختلف القوى والأطراف المؤثّرة/الفاعلة في سوريا.

لم يكن انتصار قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على تنظيم “داعش” الإرهابي؛ هو التحدي الوحيد الذي زالت- بالتغلب عليه- مخاطر تهديد أمن المنطقة واستقرارها، فالتحديات تزداد أكثر ويتطلب مواجهتها، الكثير من الجهود المتشاركة مع الأطراف التي تريد إدامة الاستقرار في المنطقة، والانطلاق منها نحو عموم سوريا والبدء الفعلي بحلٍّ سياسيٍ حقيقي.

ليست وحدها مشكلة خلايا التنظيم الإرهابي المنتشرة في مناطق مختلفة من الشرق السوري وكذلك العناصر المحتجزة في المعتقلات وعوائلهم في “مخيم الهول” التي يجب النظر إليها كـ “قنبلة موقوتة”، تهدد المنطقة؛ فربما إشكالية تواجد النفوذ مختلف القوى هناك، أكثر خطورة على مستقبل الاستقرار.

فالنفوذ الإيراني والروسي- رغم أنهما يدعمان وجود  النظام السوري في المناطق الشرقية وفرض سيطرته عليها كاملاً، وهذا “ظاهرياً”- مثير للتصعيد في ظلّ مساعي الطرفين فرض سلطة دمشق المتخلية عن مسؤولياتها منذ نحو عشرة أعوام، غير أن حقيقة الأمر؛ هي أن كِلا النفوذين يتصارعان في فرض سطوتهما أكثر على المنطقة الشرقية من سوريا، مستخدمين الأذرع المحلية كأحجار شطرنج يحركونها لزيادة وتيرة التصعيد بأشكال مختلفة.

ويبدو في هذا السياق أن دمشق ترى بأن التصعيد الذي يثيره النفوذان يخدم مصلحتها، غير أن الحكومة التي تخلّت عن مسؤولياتها وتركت أهالي المنطقة يواجهون مصيرهم منذ سنوات مضت، لم تدرك بعد أن القصف الجوي الإسرائيلي هناك يمنع ثبات أي ركيزة للاستقرار.

كذلك، فإن المزاحمة الروسية للوجود العسكري الأميركي ضمن إطار “التحالف الدولي” يفتح الباب على تجييش صراعٍ محلي مدفوعاً بدعم أطراف على حساب أطرافٍ أخرى، بين من يؤيد النظام ويتلقّى دعماً روسياً، وبين من يرفض وجود حكومة منهزمة عملياً رفضت الدفاع عن المنطقة التي غزاها تنظيم “داعش” ووقف إلى جانبه قوى شكّلت تحالفاً لمواجهة المد الإرهابي.

ميدانياً، لا توجد حتى الآن آفاق لوقوع أيّ صراع عشائري/محلي بين الأطراف السورية، رغم التجييش الذي تتبناه دمشق لإشعال فتيل الفتنة، سواء عبر محاصرة مناطق في مدينة حلب وريفها ومن ثم الادعاء أن “الأساييش” (قوات الأمن الداخلي في مناطق الإدارة الذاتية)، هي  من تحاصر الأحياء ضمن المربعات الأمنية في مدينتي الحسكة والقامشلي، لتأليب الشارع على “الإدارة الذاتية” وقواتها، وصولاً لأزمة قطع المياه عن محافظة الحسكة بسبب المناطق المجاورة لها والتي تقع تحت سيطرة “الجيش الوطني” والقوات التركية، ضمن ما تسمى بمنطقة عمليات “نبع السلام” (العملية العسكرية التي أطلقتها أنقرة على مناطق في شمال شرقي سوريا في تشرين الأول 2019).

إذاً، فإن أزمة قطع المياه، تفتح المجال للقول أن خطر التجييش لا يأتِ من دمشق وحدها؛ بل ربما يأتي من أنقرة التي هي -حتى الآن- على عداوة مع “قسد”، ويسعى الجانب التركي في الوقت نفسه إلى دعم بعض العشائر وكذلك تشكيل مجالس عشائرية تتحرك عسكرياً ضد “الإدارة الذاتية” أو “قسد” على حد سواء.

إلا أن الأخيرة لاتزال تحاول منع حصول اختلال توازن هناك بفعل القوى المتدخلة، وهي عملياً قادرة على ذلك رغم الصعوبات الجمّة التي تعتري هذه المهمة، سواء على الصعيد المحلي/المدني من خلال تعزيز إشراك جميع المكونات في إدارة المنطقة، وهو أمر جيد نسبياً في تأثيره على منع أي تصعيد مناطقي، إضافة إلى الخوض في الصعيد السياسي لإنجاز حوار كردي-كردي، حيث سيسهم نجاحه بتحقيق عدة مكتسبات، أولها نشر قوات عسكرية مقبولة من تركيا على الحدود ومناطق التماس، فوجود قوات “بيشمركة روج” هناك سيسحب أي ذريعة لعمل عسكري تركي محدود أم واسع جنوبي منطقة “نبع السلام”.

وكذلك سيعرقل أيّة محاولات لعقد صفقات تبادل نفوذ بين القوتين الروسية والتركية في غرب وشرق الشمال السوري، وكل ذلك لن يكون حاصلاً دون استمرار الدعم الأميركي الفرنسي لجهود الحوار. كذلك فإن دعوات “قسد” للحوار مع تركيا والمعارضة السورية المدعومة من قبلها، هو جانب آخر من الحراك السياسي الذي يقف بوجه أي نزاع/تصعيد يخطط له.

لايزال النظام السوري يسعى لزرع الفتنة بين مكونات المنطقة واستغلال عوامل متعددة وظروف مختلفة تحصل في المنطقة، إلا أن إمكانية حصول ذلك تكاد تكون مستحيلة، وذلك لعدة أسباب، من أهمها وجود تقاطع مصالح بين القوى المتدخلة هناك، وعدم وجود رغبة في التصعيد باستخدام أدوات محلية من قبلهم طالما تتواجد تلك التقاطعات.

ولعل أهمها بروز الدور الإيراني المنبوذ من أطراف متعددة في الملف السوري، ووجود تقارب أو شبه إجماع على أهمية إخراج ذلك النفوذ من تلك المناطق، إضافة إلى تأثير الموقف الأميركي ورؤية واشنطن حيال التمدد الروسي وكذلك التركي خارج حدود الشمال الغربي من سوريا.

ما يمكن البناء عليه من أجل تعزيز فرص الاستقرار، هو التوافق التام على آلية مواجهة النفوذ الإيراني هناك، بالتوازي مع التخلص من آثار ومخاطر تنظيم “داعش” الإرهابي، مترافقاً مع إنجاز الحوار الكردي-الكردي والانطلاق نحو الحوار بين كل مكونات المنطقة المجتمعية منها والسياسية، ومشاركة كل الأطراف الكردية في العملية السياسية السورية، واعتماد شكل الدولة السورية ونظام الحكم فيها، بعد تحقيق الحل السياسي الكامل والمستدام في سوريا.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.