مأساة “مكتومي القيد”: هل لدى الحكومة السورية دوافع لإنهاء معاناة آلاف العائلات الكُردية؟

مأساة “مكتومي القيد”: هل لدى الحكومة السورية دوافع لإنهاء معاناة آلاف العائلات الكُردية؟

رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على الحادثة، إلا أن “بختيار أحمد”، البالغ من العمر اثنين وخمسين عاماً، لا يزال يتذكّر، بتأثّر شديد، كيف أضرمت والدته النيران في كتبه المدرسية، بعدما جمعتها في تنور بفناء دارهم، في حي “الهلالية” غربي مدينة #القامشلي.

«أشعر بغصّة في حلقي كلما اتذكّر تلك الحادثة في العام 1988، فقد حُرمت من الحصول على وثيقة الشهادة الثانوية، مثل باقي أقراني، لا لشيء سوى لأنني من مكتومي القيد، وكنت قد نجحت بمعدل يخوّلني أن أتابع حلمي في دراسة الهندسة الزراعية، ما دفع أمي للقيام بذلك الفعل»، يروي “بختيار” بأسىً شديد لموقع «الحل نت».

 

إحصاء وضحايا مجهولون

مكتومو القيد، الذين ينتمي إليهم “بختيار أحمد”، هم «فئة من الكُرد السوريين، ممن جُرّدوا من حقوقهم المدنية والإنسانية في العام 1962، بعد إحصاء استثنائي جائر، أُجري في محافظة #الحسكة حينها، ودام يوماً واحداً فقط، ليصبح إثباتهم الشخصي الوحيد شهادة تعريف، تُستخرج عادةً من  مختار المنطقة التي ولدوا فيها». بحسب الناشطة النسوية والحقوقية “نالين عبدو”.

وتؤكد الحقوقية السورية أن «الإحصاء خلّف عشرات الآلاف من مكتومي القيد، و”أجانب الحسكة”»،

وبحسب تقرير لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، يعود لأواخر العام 2019، فإنّ «عدد فئة المكتومين وصل، حتى العام 2011، لأكثر من (171300) فرداً. حصل  نحو (50400) منهم على الجنسية السّورية، وتبقى نحو (41000)  فرداً، لم يحصلوا على الجنسية، كما لم يقم أقل من (5000) شخص بزيارة دوائر النفوس، من أجل تصحيح وضعهم القانوني».

ويُظهر التقرير أيضاً أنه، وحتى مطلع العام 2011، «بلغ عدد فئة “أجانب الحسكة/أصحاب البطاقة الحمراء” (346242) فرداً،  حصل منهم على الجنسية السّورية، مع نهاية شهر أيار/مايو 2018، (326489) فرداً، فيما لا يزال هنالك (19753) فرداً غير حاصلين على الجنسية السورية بعد».

لكن “بختيار” يرى أن «معالجة ظاهرة المكتومين، من هذا الجانب فقط، لا تعبّر عن حجمها الحقيقي، كما أنها تُغفل كثيراً من ضحاياها، فهي تغيّب مأساة الأمهات الكُرديات السوريات، اللواتي لم يستطعن منح جنسيتهن لأبنائهن، وكل ذنبهن أنهن ارتبطن بإنسان مكتوم القيد».

وتؤكد الحقوقية “نالين عبدو” أنه «خلال العقود ،التي تلت الإحصاء، رفضت كثير من العائلات تزويج بناتها للمكتومين»، لذا فإن «هذه الظاهرة أدت لكثير من الغبن بحق المكتومين»، وفق “بختيار”، الذي يؤكد أن «شقيقه الأصغر “سوار” لا يزال معتزلاً الزواج، رغم بلوغه سن الخمسين، وذلك بعدما رُفِض طلبه للزواج مرتين متتاليتين، لأنه كان مكتوماً».

ويُقرّ “أحمد” بامتنان أن «والدته “روجدا محمود”، وزوجته “آشتي حسن”، اللتان تحملان الجنسية السورية، كانتا شريكتين في حمل همومه وهمِّوم إخوته، ومن بعدهم همِّ أطفاله، جرّاء حرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية، من عدم القدرة على التملّك، أو متابعة التعليم، أو الحصول على وثيقة زواج، أو السفر، أو حتى إمكانية الإقامة في الفنادق».

ولا تفارق الابتسامة محيا “بختيار” وهو يسترجع ذكرى اليوم، الذي تقدّم فيها لخطبة “آشتي”، وكيف تم زواجهما، بخلاف ما كان مُتعارفاً، من رفض العائلات لتزويج المكتومين، «لا شك أنها كانت تحبني، وإلا ما قبلت الزواج بي»، يقول ذلك ضاحكاً.

فيما تؤكد “آشتي” ، والتي تعمل مدرّسة لمادة الجغرافيا منذ خمسة وعشرين عاماً في إحدى مدارس القامشلي، أن «أهلها لم يكن لديهم أي اعتراض على الزواج، خاصة وأن والدها كان من الرعيل الأول للحركة الكردية في سوريا، التي كانت تتبنى مطلب تجنيس المكتومين والأجانب».

 

مأساة لثلاثة أجيال

لكن في المقابل لا يزال يحزّ في نفس “آشتي” أن «أطفالها ليسوا مسجّلين على اسمها، ولذلك لم تستطع زيارة ابنتها المتزوجة في هولندا، رغم تلقيها طلب زيارة، لم يحظ بموافقة  السلطات، لعدم وجود إثبات يؤكد أنها أمها، ذلك أنها لا تزال عزباء، وفق السجلات الرسمية».

ولا تنسى “آشتي” أيضاً كيف أوقفها جنود #الحكومة_السورية، على حاجز بمنطقة #الطبقة،  لدى توجهها، رفقة ابنتها الصغيرة، إلى #دمشق أواخر العام 2020، وكيف شككوا في أن الطفلة ابنتها، واعتبروا أن الوثائق، التي قدمتها لهم، لم يعد معترفاً بها، بعدما تم طي ملف “أجانب الحسكة”، وهي وثائق «تليق بالحيوانات»، حسب تعبيرهم.

أما “روجدا محمود”، والدة “بختيار” الهادئة في حديثها وملامحها، فتقول إن «حادثة إحراقها لكتب ولدها، في ذلك الحين، لم تكن إلا محاولة منها لطي صفحة في حياته، والبدء بأخرى، فصار بعدها  صاحب متجر للألبسة، كان والده قد اشتراه له، وسط سوق القامشلي».

وتؤكد “روجدا”، التي تلبس فستانا تقليدياً، وفوقه قفطاناً ذي طابع تراثي، لا ترتديه إلا قلة من نساء المنطقة، أن «أكثر ما آلمها حينها هو أن حرمان ابنها البكر من متابعة دراسته الجامعية دفع بإخوته إلى هجران الدراسة، رغم تفوقهم فيها، بعدما أصابهم الإحباط».

وفي حين تتذكر الأم كيف بقي “بختيار” شهراً كاملاً لا يستطيع الخروج من منزله، بعدما أصابته الصدمة، يتذكر بكرها أنه أسعف والدته إلى دمشق، بعدما تعذّر تشخيص مرض ألمّ بها فجأة في القامشلي، ليشخّصه الأطباء لاحقاً، بعدما عرفوا قصة “بختيار” وأمه،  اعتلالاً ذي منشأ نفسي.

وتتذكّر السيدة السبعينية أيضا حفيدها “زانين”، بِكّرِ  “بختيار”، الذي ربّته على يدها، وتفوّق على أقرانه في مدارس القامشلي، حين كان في المرحلة الابتدائية، في مسابقة علمية، وجاء يشكو لها إنه حُرِمَ من الوصول إلى المراحل النهائية للمسابقة، التي ستنظّم على مستوى البلاد في مدينة #اللاذقية، «أولم تكفنا مأساة والدك يا بني؟».

 

أرقام لا تعكس الواقع

” بختيار أحمد” يصف معاناة ابنه بالقول : «ابني “زانين” عاش ذات المشاعر، التي عشتها وأنا انتظر استلام وثيقتي الثانوية، بعدما نجح في الثانوية، مع بداية #الأزمة_السورية، ما دفع أخاه الأصغر لتهديد والدته بعدم إكمال دراسته، فيما لو انتهت أحلام أخيه بالدراسة».

ويضيف الأب أن «”زانين”، وبخلاف المتوقع، حصل على شهادة المرحلة الثانوية ، ودرس بمعهد النفط في الرميلان، لكن المؤسف أن الحكومة السورية ماطلت، في العام 2012، بمنح الجنسية لمكتومي القيد، رغم إصدارها قراراً بهذا الخصوص، عقب المرسوم 49 في العام 2011، والذي سمح بتجنيس فئة الأجانب، فاضطر “زانين” للهجرة إلى خارج البلاد، دون استكمال دراسته، فقد كان يتلقى التحذيرات من إدارة المعهد، بأنه لن  يستطيع الحصول على وثيقة التخرّج، إذا لم يحصل على الجنسية السورية».

وتشير الحقوقية “نالين عبدو” إلى أنه «رغم تمكّن عشرات الآلاف من الحصول على الجنسية، ووجود تقديرات رسمية حول أعداد من لم يحصلوا عليها بعد، إلا أن هذه الأرقام لا تعكس أرقام المتضررين الحقيقيين من الإحصاء وتبعاته»، وبرأيها فإن «حالتي مكتوم القيد والأجنبي كانتا من الأسباب الرئيسية لهجرة  أعداد كبيرة من الكُرد السوريين، خلال سنوات التسعينات، كما أن آخرين منهم فضّلوا، في وقت مبكّر من الأزمة السورية، النزوح إلى دول الجوار، على أمل الحصول على وثيقة لاجئ».

 

ماذا بعد ستة عقود؟

مع بدايات شهر شباط/ فباير الماضي، تداولت وسائل الإعلام، نقلاً عن أعضاء من #مجلس_الشعب السوري، أنه «بات بإمكان مكتومي القيد، ممن لم يستكملوا أوراقهم في العام 2012، الحصول على الجنسية»، وهي حالة تنطبق على “بختيار أحمد” وعائلته، فما كان من الأخير إلا أن باشر بتحضير أوراقه، بعدما تناهى إلى مسمعه وجود نية جديّة لدى الحكومة لسورية في إنهاء قضية تجنيس مكتومي القيد.

بدورها تتوقع الحقوقية  “نالين عبدو” أن «تكون هنالك جديّة من جانب الحكومة السورية لإنهاء هذا الملف، في الفترة القادمة»، ولكنها ترى أن «السبب في ذلك يعود، بالدرجة الأولى، إلى رغبة الحكومة السورية  في أن يستفيد موظفوها من حركة الأوراق، في ظل الظروف الاقتصادية  الصعبة، خاصة وأن العائلات المتضرّرة تُضطر لدفع رشاوى مالية كبيرة، أملا في إنهاء معاناتها الممتدة منذ ستة عقود».

وتضيف “عبدو” أنه «قد يكون من بين أهداف الحكومة السورية أيضاً الاستفادة من شريحة جديدة من المجنّدين في صفوف قواتها، عدا عن أنها قد  تعتبرها فرصة لكسب ولاء هذه الفئة، وفي المحصلة قد يساهم ذلك، ولو بشكل ما، في تحسين صورتها على الصعيد الإنساني والحقوقي».

وفيما يبدو أن الحكومة السورية تتجه لإنهاء ملف تجنيس مكتومي القيد، بعد مرور تسعة وخمسين عاماً على الإحصاء الاستثنائي، ترى الناشطة النسوية  أن «حق المرأة السورية ، في منح جنسيتها لأبنائها، لا يزال أحد مطالب الحركة النسوية السورية».

“بختيار  أحمد” يؤكد أنه «حتى لو حصل على الجنسية السورية، فإن ذلك لن يعوّض عائلته، التي حُرمت فيها ثلاثة أجيال من أبسط حقوقها، بداية بأبيه، الذي صُنّف مكتوم القيد، فيما صُنّفت عمته أجنبية، وعمه الآخر مواطناً، ومرورا بجيله وجيل إخوته، وانتهاءً بأبنائهم».

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.