قادت روسيا في فبراير شباط الماضي، جهود وساطة دبلوماسية شديدة الخصوصية بين دمشق وتل أبيب، أسفرت عن تحرير أسرى سوريين مقابل إطلاق سراح فتاةٍ إسرائيلية كانت تسلّلت إلى الحدود السوريّة عبر سفوح جبل الشيخ، وفتحت الحادثة الباب أمام اختبار جدية الطرف الروسي بصفته ضامناً للنظام السوري وذو وزن لدى الإسرائيليين، كما كانت فرصةً لاختبار نطاق التأثير الإيراني في قضايا حساسة كتبادل أسرى مع إسرائيل برعايةٍ روسية وفتح نافذة مهمة غير معلنة للاتصال بين دمشق وتل أبيب، ولعل الأهم في كل ذلك هو اعتقادُ موسكو بأن نشاطاً كهذا يجعلها أكثر قبولاً لدى واشنطن عبر هذا التراسل من بوابة الاستقرار الإسرائيلي.

مصادر صحفية عديدة كانت قد تحدّثت عن بندٍ سري تضمنته الوساطة الروسية، يتعلق بقيام إسرائيل بدعم وصول لقاح كورونا إلى سوريا دون المزيد من التوضيح، الأمر الذي عجّل في نفيه رسميون من الطرفين، لتعيد هذه التسريبات إلى الأذهان تسريبات أخرى حول عروضٍ كانت قدمتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من بينها تقديم المساعدة في علاج “أسماء الأسد” زوجة الرئيس السوري، مقابل تسليم الصحفي الأميركي “أوستن تايس” المختطف في سوريا منذ عام ٢٠١٢ ويرجح أن لإيران دورٌ أساسي في إحباط تلك الصفقة وإعاقة أية خطوة تمنح الفرصة للنظام “لينفض منكبيه” إنما تريد إيران الحفاظ على النظام هزيلاً مرتهناً لإرادتها وحساباتها.

لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لموسكو التي عملت للحفاظ على النظام السوري وترى في بقائه ضمانة للدور الروسي واستمرار لمصالحه في سوريا، وبدأت العمل بوضوح على دفعه للتخلي عن سياساته المتصلبة تجاه قضايا إقليمية ومحلية عديدة وخصوصاً تلك التي تذكّيها التيارات المرتهنة لطهران داخل أجهزة النظام، ومن جهة فإن موسكو ترى في تعويم الأسد وإبعاده عن الإيرانيين مقدمة للسيطرة التامة على مفاصل مؤسسات الدولة (الجيش- الأجهزة الأمنية- الحكومة).

ومن جهة أخرى، تعتبر ذلك مدخلاً لإرضاء واشنطن المعنية بتغيير سلوك النظام السوري على الصعيدين الخارجي والداخلي، حسبما أعلنه مسؤولون أميركيون في محطاتٍ عديدة، لكن تحديات كبيرة تعترض تحقيق الأهداف الروسية في هذا الصدد، حيث تتحكم إيران بعدة ملفات سياسية حساسة في سوريا، وتشكّل العلاقة مع إسرائيل واحدة من أبرزها.

كذلك الموقف التشنجي تجاه دول الخليج العربي، إلى جانب شؤون داخلية ترفض إيران أي إخلالٍ بها كرفض مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرقي البلاد والذي يشكّل الكُرد عصباً أساسياً فيه.

جريدة (الشرق الأوسط) نشرت في وقت سابق جزءاً من مذكرات عبدالحليم خدام النائب الأسبق للرئيس السوري، حيث نقلت حديثاً منسوباً للرئيس الإيراني محمد خاتمي في عام ٢٠٠٣ يقول فيه لبشار الأسد: «رغم التزامات تركيا تجاه أميركا، فإنني ألاحظ أن الجماعة التي تحكم (تركيا) تميل للعمل معنا ومع العالم الإسلامي، ويجب علينا أن نكون حذرين من قيام دولة كردية».

فأولويات السياسة الإيرانية التي تحكم دمشق، فيما يخص السياسات الخارجية والداخلية، تعرقل بشكلٍ ممنهج أية تحرّكات من شأنها وقف الصراع الدائر وتصريحات خاتمي تمثل استراتيجية ثابتة إيرانياً، وعلى الضفة الأخرى؛ تتفق إيران ضمناً مع تركيا القابضة على المعارضة، فيما يخص تبادل نوبات الوصاية على السوريين لمنعهم من الوصول لأي تفاهمٍ بينهم قبل الانتهاء من تقويض التواجد العسكري الكردي المدعوم أميركياً في شمال شرقي البلاد.

السؤال الآن حول الاتجاه الذي تقود روسيا سفينة الحل باتجاهه، ومدى تصميمها على المضي في تغيير سلوك واتجاهات النظام بما يضمن له استعادة اعتباره واتزانه؟ وهل عزل مفعول إيران عن النظام كافٍ لتحقيق ذلك أم يجب استبدال الأثر الإيراني بالبديل الخليجي الملتزم مؤخراً باتفاقيات سلام مع الإسرائيليين؟

في صباح يوم ١٩ فبراير شباط وعلى متن طائرة آتية من موسكو، وصلت الشابة الإسرائيلية إلى مطار “بن غوريون” الدولي، حيث لا وجود لخطٍّ جويٍ مباشر للطيران بين دمشق وتل أبيب، باستثناء طائرات حربية اسرائيلية تستهدف بشكلٍ روتيني مواقع تابعة للقوات الإيرانية وحلفائها في الأراضي السورية دون اعتراض روسي.

كذلك وقعت في شهر أبريل نيسان الماضي أحداث هامة عبّرت بشكلٍ أكبر عن الاستياء الروسي من الشريك الإيراني في سوريا، وحملت رسائل مهمة للنظام المتحالف مع إيران، كالاشتباكات المسلحة شمال شرقي البلاد في ٢٠ أبريل نيسان بمدينة القامشلي، حيث قامت قوات أمنية تابعة للإدارة الذاتية بطرد فصائل “الدفاع الوطني” التابعة للنظام والمدعومة من إيران، ولم تبدِ روسيا أي قلق تجاه هذا التطور، وإنما قابلته بلعب دور الوسيط المنحاز للإدارة الذاتية والمُرحِب بإنهاء سيطرة الميليشيات المدعومة إيرانياً.

حادثٌ آخر كشف اتجاه المسار الروسي بشكلٍ أوضح، حيث أقلعت الطائرة المدنية الروسية رقم 65992 في ٢٧ أبريل من مطار “بن غوريون” في إسرائيل لتحطَّ مباشرة في قاعدة حميميم بمدينة اللاذقية، في سابقةٍ تفتح فضاءً واسعاً للتحليل والتكهّن، ولا معلومات مؤكدة حول من أقلّتهم الطائرة، إلا أن الأنباء ترجح بأنها لن تكون الرحلة الأخيرة بين الأراضي السورية وتل أبيب.

فملامح التوجه الروسي الجديد واجتماع الدوحة الثلاثي الذي جمع الروس والأتراك والقطريين واستثنى إيران، وإعلان المراقب الأميركي انسحابه بشكلٍ رسمي من محادثات آستانا، تمثّل تطورات تشير إلى أن هناك تقاطع أهداف مشتركة لإحباط أي مسار ساهمت فيه إيران.

ما يعني أنها (إيران) لن تبقى طرفاً في المقايضات العسكرية الحيوية وأن تركيا قد تبقى وحيدة أمام الروس والأميركيين اللذين ارتبطت معهما باتفاقات وقف إطلاق النار في الشمالين الشرقي والغربي من سوريا، والمجتمع الدولي مهما تلكأ، سيجد نفسه في النهاية مضطراً لتصميم مسارات سياسية أكثر واقعية وتجميد الأوضاع إلى أن يتحقق ذلك الهدف.

يدرك الروس جيداً أن الوجود الإيراني في سوريا أصبح عبئاً ثقيلاً، وأن تدفق الأموال العربية والغربية لتمويل الاستقرار والإعمار وعودة اللاجئين، مرهونٌ بتحقيق الانفصال عن النظام الإيراني، وأن أي حلٍّ سياسي يوافق عليه الغرب؛ مشروطٌ بسحب طهران لميليشياتها، ولا مزيد من الخيارات أمام الروس، هم بدأوا فعلياً بإرغام النظام للسير باتجاه تقديم تنازلات مؤلمة في ميدان الصراع العربي الإسرائيلي أيضاً، والنظام المثقل بالالتزامات تجاه إيران يعي التحديات جيداً.

وسيبقى الاستفهام المطروح في هذه المرحلة: هل سيفلت النظام حقاً من القبضة الإيرانية إذا ما ذهب بعيداً مع الروس في مسار اللاذقية – بن غوريون ؟ أم سيبقى يتعثّر إلى أن يقرر الروسي المضي بسوريا في هذا الطريق بِلا إيران ومن دون الأسد؟.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.