بات اتفاق تسوية الجنوب في 6 تموز 2018، مهدداً بالانهيار، مع التصعيد الأخير لقوات النظام، ممثَّلة بالفرقتين الرابعة والتاسعة، المقربتين من إيران، إضافة إلى مليشيات يدعمها الحرس الثوري الإيراني (كمليشيا الرضوان، ومليشيا 313، والحرس القومي).

كانت روسيا ضامنة لاتفاق التسوية حينها، وحاولت أن تلعب دور الوسيط لاحقاً، عدة مرات، في حل الخلافات بين اللجنة الأمنية التابعة للنظام، وبين اللجنة المركزية التابعة لفصائل درعا.

الواقع أن روسيا لم تكن وسيطاً محايداً، فهي طرف حاضر في مفاوضات التسوية، وأرادت حصد المكاسب منها، عبر تحويل الفصائل المعارضة إلى عناصر في اللواء الثامن والفيلق الخامس، الذي تدعمه، ضمن سياستها في تشكيل جناح في الجيش النظامي والقوات الرديفة له تواليها، وتنافس الجناح الموالي لإيران ضمن جيش النظام.

فشلت موسكو في سياستها تلك في درعا، فتلك التسوية كانت خياراً لفصائل درعا، يجنبها سيناريو التهجير، شريطة أن تبقى العناصر المقاتلة في منطقة حوران، ولا يتم إرسالهم للقتال في مناطق أخرى، مع تسليم السلاح المتوسط، وهو ما حصل مؤخراً، وعدم دخول جيش النظام إليها والاكتفاء بمؤسساته الرمزية.

اعتقدت موسكو أنها قادرة على الالتفاف على شروط أهالي درعا البلد، مهد الثورة، ودمج قوات شباب السنة بقيادة أحمد العودة، ضمن اللواء الثامن التابع للجيش النظامي، وإمكانية استدعائهم وإرسالهم إلى المناطق الساخنة في إدلب، وهو ما فشلت به، حيث رفض العناصر مغادرة المحافظة.

زاد الطين بلَّة، بالنسبة لموسكو، أن مناطق التسوية في المحافظة رفضت المشاركة في الانتخابات الرئاسية للنظام، ورفعت علم الثورة، وسمحت حالة الهدوء النسبية منذ اتفاق التسوية في 2018، بإعادة تشكيل الروح الوطنية لدى السكان والمقاتلين، ما شكل تهديداً لكل مخططات موسكو للتسوية، وهدَّدت بإعادة تشكيل المعارضة فيها، خاصة ما يتعلق بالجناح العسكري، حيث تضم المحافظة قياديين ذوي خبرة سابقة في الثورة.

لذلك أصر وفد موسكو المرافق للجنة الأمنية للنظام، والذي كان بقيادة الضابط الروسي المدعو “أسد الله”، على تهجير ستة مقاتلين لهم شأن في المنطقة، وقبلت به اللجنة المركزية، الممثِّلة لأهالي درعا، لتجنب سيناريو التصعيد، لكن دون جدوى.

التصعيد الأخير هو خيار روسي بامتياز، حيث رافق الوفد الروسي اللجنة الأمنية للنظام في كل المفاوضات التي جرت مع أهالي درعا البلد، وهو الخطوة الأخيرة لموسكو لإخضاع المحافظة لسيطرة النظام.

تغامر موسكو في السماح للفرق الموالية لطهران، والمليشيات التابعة لها، بالمشاركة، وتصدّر الهجوم على درعا البلد وريفها، فهي تريد الحفاظ على تقديم نفسها لمقاتلي درعا وأهلها، على أنها وسيط، وأنها تدعمهم، وهي تحاول كسب ثقتهم، خاصة أنها لم توقف تقديم المساعدات الإغاثية لهم، حتى في فترة الحصار التي مضى عليها قرابة 45 يوماً.

كما تريد أن تشدّد الضغط على أبناء المنطقة وشبانها، من أجل ألا يبقى لهم خيار غير الالتحاق بالخدمة العسكرية، والعودة إلى صفوف مؤيدي نظام الأسد؛ عدا عن رغبتها في فتح الطريق الدولي المؤدي إلى معبر نصيب- جابر، أمام الحركة التجارية مع الأردن والخليج العربي، ما سيخفف من أثر الحصار على النظام، خاصة بعد أن لمست رغبة من ملك الأردن، عبدالله بن الحسين، بعودة العلاقات مع نظام الأسد.

بالنسبة للنظام، لم يكن يرضيه اتفاق التسوية، ويريد السيطرة على كامل المحافظة، لولا منع الروس له؛ ومليشيات إيران تريد التوسع أكثر، خاصة في منطقة حوران، وهي تشارك في الحملة الأخيرة ضمن محاولاتها الأخيرة لتوسيع الصدام مع إسرائيل، حيث استهدفت ناقلات الخليج، وأطلق حزب الله صواريخه على المستوطنات الإسرائيلية، في تصعيد عدائي مع تولي الرئيس المتشدد، ابراهيم رئيسي، مقاليد الحكم، في الوقت الذي تتراجع فيه فرص العودة إلى الاتفاق النووي، مع اقتراب طهران أكثر من أن تصبح دولة نووية.

لا يمانع النظام، ولا إيران، قصف درعا البلد والقرى المحيطة بالطيران والبراميل، ولا تهجير أهلها إلى إدلب وتركيا أو حدود الأردن، من أجل بسط السيطرة الكاملة عليها.

لكن روسيا لا تريد سيناريو التهجير، حتى لا تغضب حلفاءها، سواء تركيا أو الأردن، ولتتجنب إزعاج الاتحاد الأوروبي وأميركا، كذلك فإن خيار التهجير لا يتفق مع ما تطرحه من حلول حول سلة (إعادة الإعمار وعودة المهجرين)، ولا مع التقدم البسيط الذي حققته في التوافق مع الولايات المتحدة حول موضوع إدخال المساعدات الإنسانية، حيث تطمح أن يكون ذلك بداية لتطبيع عربي ودولي مع النظام يسمح بإعادة الإعمار، ولو جزئياً، وإزالة العقوبات عن النظام، والمضي بالحل الروسي للأزمة السورية.

إذاً، موسكو تؤيد التصعيد في درعا، لكنها لا تلتقي مع دمشق وطهران في مجمل الأهداف، فإيران، بسبب رغبتها التوسعية في مناطق سوريّة، تحرض النظام على استخدام القوة العسكرية لاستعادة درعا، بينما روسيا لا ترغب في سيطرة إيرانية وتوسع في الجنوب، مع سيناريو تهجير محتمل.

وفي الوقت نفسه تحاول الاستفادة من التصعيد والضغوط على أهالي درعا، وعبر دور الوسيط والمنقذ، لإيجاد صيغة جديدة تُخضع المنطقة، دون سيطرة إيرانية، وهذا ما يبدو أنه صعب، في ظل صعوبة اقتحام المدن، مع قدرة أهالي درعا على توحيد كلمتهم، ووضوح هدفهم، ومهارتهم القتالية حتى بالأسلحة الفردية.

بذلك يكون الفشل الروسي في إدارة ملف درعا سابقاً،  والارتباك في إنهائه اليوم، هو جزء من ارتباك روسي في عموم الملف السوري، حيث تعجز روسيا عن فرض حل سياسي، وتبحث عن حلول مؤقتة تمرر الوقت.

وفي الوقت نفسه، ترفع من سقف طموحاتها في المنطقة، لتتجاوز النفوذ في سوريا، إلى نفوذ أوسع في المتوسط؛ هذا اللاحل الروسي والاستنقاع، دفع مؤخراً بالصين، التي تشارك موسكو في الدفاع عن نظام الأسد، إلى البحث عن دور أكبر في سوريا، ظهر في زيارة وزير الخارجية الصيني إلى دمشق، الأمر الذي يزيد ارتباك روسيا في سوريا.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.