يرى خبراء في سد الفرات، أن النقص الحاد عن 200 متر مكعب في الثانية في تدفق مياه الفرات عند الحدود السورية التركية، عمل على انخفاض المياه لأكثر من خمسة أمتار فيه، وتقلصت مساحة البحيرة الصناعية في ذلك السد بأكثر من 2 كيلومتر مربع.

وبالتالي، وفي حال لم تسمح تركيا للتدفق بأن يعود إلى الـ 500 متر مكعب في الثانية، كما تمّ في اتفاق بين الدولتين 1987، فإن العنفات التي تولّد الكهرباء ومحطات تحلية المياه؛ ستتوقف نهائياً، وهي بكل الأحوال تعمل بأدنى درجاتها.

ليست المرة الأولى التي تتعدى تركيا على حقوق سوريا، وأيضاً العراق، ولكن ظروف الدولتين، ومنذ 2011، تدفع الأولى للإمعان في تجاهل حقوق كل منهما في مياه نهر الفرات ونهر دجلة وتجاهل حقوق حسن الجوار، ومثلها تفعل إيران في الأنهر التي كانت تذهب إلى الأراضي العراقية، وتمّ تغيير مسارها إلى الداخل الإيراني.

لم تكن المفاوضات ثلاثية ولا مرّة، بين تركيا والعراق وسوريا، رغم أنها بدأت في 1962، دائماً كانت ثنائية (تركيا العراق، أو تركيا سوريا). فقد ساهم الوضع السابق في ضعف المفاوضات، وعدم توسط المنظمات الدولية بهدف إقرار تركيا بدوليّة الأنهار السابقة، ولا يحق لها استنزافها عبر سدودٍ، وعددها91، بدأت بها قبل أكثر من ثمانين عاماً، بمشروع “الكاب”.

عِداءٌ تاريخي

استغلت تركيا العداء التاريخي بين نظامي دمشق وبغداد منذ الستينيات، والذي أدى لضعفهما، فأمعنت في احتجاز المياه، وبناء السدود الضخمة، التي تعود بفائدة عظمى على تركيا، فتصدر من خلالها المحاصيل الزراعية والكهرباء النظيفة، بينما تسبب بهجرة ملايين السوريين عن أراضيهم التي باتت متصحرة، بعد توقّف المياه عنها.

لم يعد نهرا الفرات ودجلة يسدان حاجة السوريين والعراقيين من مياه الشرب، أو للزراعات الصيفية البسيطة، وهي ضرورية من أجل استقرار المواطنين.

لقد أكملت تركيا تنفيذ مشروع مياه “شانلي” عام 2012، واحتجزت المياه في سد “سليفان” منذ 2011، وأكملت ملء سد “إليسو” الضخم في 2020، الذي يعادل كافة سدود العراق! مستفيدة من تدهور العلاقات مع النظام السوري منذ حينه، والضعف الشديد للنظام العراقي. وهناك من يقول إن العراق وسوريا ستخسر 70 بالمائة من التدفق الطبيعي للفرات و50 بالمائة من نهر دجلة، حينما تملأ تركيا سدودها.

شكّل الخيار الأمني للنظام السوري بعد 2011، وقبله سياسات الفساد، وكذلك في العراق حيث الفساد والطائفية والنهب المنظم، سبباً لغياب سياسات وطنية، تُعلي من شأن الأمن المائي والغذائي لكافة المواطنين.

الأمنان الأخيران، لا يهددان سكان الجزيرة الفراتية فحسب، بل كافة المدن السورية، ولكن اعتماد أهل الجزيرة على هذين النهرين بأكثر من 90 بالمائة، وقيام المشاريع الزراعية الضخمة على حوض الفرات وفقاً للنسبة المتفق عليها بين تركيا وسوريا.

وفي حال استمرار الانقطاع الكبير، سيؤدي إلى كارثة مخيفة، وغير مسبوقة، تُكمِل الجفاف الذي يضرب بلدان البحر المتوسط. في هذا، صَنف مؤشر الأزمات العالمية لعام 2019 سوريا على أنها البلد الأكثر عرضة لخطر الجفاف في دول المتوسط.

لا يشغل النظام السوري أحوال السوريين، ولا يعنيه أن المتضررين من احتجاز تركيا لمياه الفرات يتجاوزون 4 مليون نسمة. تركيا تعاقب الإدارة الذاتية، التي تسيطر على معظم المناطق التي يمر بها الفرات، وقد قطعت المياه عن محطة علوك لأكثر من 19 مرة في السنوات الأخيرة.

الحقوق المغتصبة

النظام السوري بدوره لا يجد ضرورة للدفاع عن حق السوريين بالماء، وبغض النظر عن سيطرة تلك الإدارة، وبغض النظر عن كل الأوضاع السورية ومنذ 2011. ولكن، ولأنّه نظامٌ أمني بامتياز، ليس لديه مشكلة أن تعاقب تركيا أو سواها كل الشعب السوري، وليهاجر كل سكان سوريا.

إن ذلك النظام يُعرِض سوريا إلى نقص حاد في المياه، وقد يصل في عام 2050 إلى 6 ونص مليار متر مكعب من الماء، وفي العراق أكثر من ذلك بما لا يقاس، وبالتالي ما نراه اليوم من شحٍ في المياه، وتضرّر كبير في الأراضي الزراعية، سيتطور إلى مناطق خالية من السكان، وتدمير كامل للبنية التحتية الخاصة بالزراعة؛ وهنا يجب ألا ننسى أن الجزيرة السورية تعتمد بـنسبة 90 بالمائة على مياه نهر الفرات.

إن قطع تركيا للمياه، يرافقه رفضها التوقيع على أية معاهدات دولية تخص الأنهار، ضعف سوريا والعراق وعدم التنسيق بينهما، يشبه سلوك النظام المصري إزاء سد النهضة الإثيوبي، حيث لم يهدد بتفجيره مثلا؛ نقول إن ذلك الضعف، يؤدي بتركيا أو إثيوبيا أو إيران أو إسرائيل إلى تجاهل حقوق العرب في الأنهار الدولية.

لا تعاني فقط الجزيرة من مشكلة المياه والكهرباء والتلوث وانخفاض المياه الجوفية وتدهور الزراعة وملوحة التربة، بل إن سوريا بأكملها تعاني المشكلات ذاتها، وإذا كانت لتركيا دوراً مركزياً في معاناة أهل الجزيرة من ناحية المياه، فإن حالة بقية المدن السورية، وليس منذ 2011، بل قبل ذلك، توضح الفشل الكامل للسياسات العامة للدولة.

إن الفساد والنهب المكملان للخيار الأمني، شلّا كل أشكال التطور الاقتصادي والزراعي بالتحديد، وهو يعرّض أكثر من 90 بالمائة من السوريين لخطر الأمن الغذائي والمائي، حيث تلك الأعداد من السكان تعتمد في حياتها على المساعدات الدولية أو الأهلية. يمكن توضيح ذلك بالرداءة الكلية للاستفادة من مياه بردى والعاصي والكثير من الأنهار الصغيرة التي تصب في المتوسط.

الإنذار المبكّر 

العاملون في سد الفرات، ينذرون بالإيقاف الكامل لمحطات الكهرباء في حال استمرار انخفاض مستوى الماء، للحفاظ على مياه الشرب وإرواء بعض الزراعات البسيطة، حيث بدونها سيهجر سكان تلك المناطق بلداتهم.

لقد تزايدَ انقطاع الماء من كانون الثاني الماضي، وليس من أفقٍ لإقامة علاقات متوازنة بين الإدارة الذاتية وتركيا أو الأخيرة والنظام السوري، وروسيا لا يزعجها أن يهاجر ملايين إضافية من السوريين، وهذا عكس أكاذيبها عن عودة اللاجئين والمؤتمرات السخيفة التي تقيمها في دمشق من أجل ذلك.

أميركا أيضاً ليست منشغلة بموضوع قطع تركيا لمياه الفرات ودجلة، وبالتالي لا تجد تركيا قوىً ضاغطة عليها لإعادة تدفق الـ 500 متر مكعب، أو أزيد.

لم يصل نهر الفرات في سوريا إلى “المنسوب الميت” فقط، بل إن كل السوريين وصلوا إلى انعدام الأمن الغذائي والمائي والوجودي وغياب الأمل بالمستقبل ومبررات البقاء في بلدهم! به وبدونه، يسارع السوريون إلى ترك البلاد بكل الطرق.

تركيا سعيدة بالإخفاق الكامل للنظام والمعارضة في سوريا والتبعية الذليلة للأخيرة لها، وسعيدة بالأحوال الكارثية التي يعيشها العراق. نعم رئة سوريا تكاد تَلفظ أنفاسها في الجزيرة، وكذلك بقية أنهار سوريا؛ إن الاستبداد لا يأتي بالطغاة على رأي الكواكبي، بل بهجرة الشعوب من أراضيها التي استقرت بها منذ مئات السنين.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.