تتريك العملة المحلية في الشمال السوري: أزمة معيشية أم فرصة لتدفّق الاستثمارات التركية؟

تتريك العملة المحلية في الشمال السوري: أزمة معيشية أم فرصة لتدفّق الاستثمارات التركية؟

تزامنت إجراءات تتريك العملة المحلية شمال غربي سوريا، على يد قوات المعارضة بدءاً من آب/أغسطس 2020، مع سياسة انفتاح على السوق التركية. ما ترك آثاراً كبيرة على الواقع الاقتصادي والمعيشي في المنطقة، التي تفتقر لأدنى مقومات النهوض الاستثماري والتجاري.

وعلى الرغم من أن السلطات التي تدير شمال غرب سوريا تمكّنت من تحقيق مكاسب مادية كبيرة من تتريك العملة المحلية. بعد دخولها في مضاربات مالية ضخمة. وولوجها مجال التجارة الخارجية من طرف واحد. عبر معبري “باب الهوى” في محافظة إدلب. و”باب السلامة” بإعزاز في محافظة حلب. إلا أن السياسة الاقتصادية الجديدة أدت لنتائج متعددة، يصفها كثير من المراقبين بالسلبية، طالت الحياة المعيشية للمواطن بالدرجة الأولى. ومن ثم التجّار والمستثمرين المحليين. ممن لا تربطهم أي علاقة اقتصادية بالسلطات الحاكمة.

 

التتريك وانعدام البنى الإنتاجية في الشمال السوري

المستشار الاقتصادي “أسامة قاضي” يقول إن «طبيعة الموقع الجيوستراتيجي لمناطق شمال غربي سوريا، الخاضعة لسيطرة المعارضة. وكذلك مناطق النفوذ التركي المباشر. جعلت البضائع التركية تغزو أسواق تلك المناطق». موضحاً أن «المشكلة الحقيقية ليست في وجود البضائع التركية. وإنما عدم وجود نشاط صناعي وزراعي وتجاري حقيقي في شمال غرب سوريا. فلا تستطيع البضائع المحلية منافسة مثيلاتها من المنتجات التركية».

ويضيف، في حديثه لـ«الحل نت»، أن «تتريك العملة المحلية. أي التعامل بالليرة التركية. ليس مشكلة بحد ذاته. فهو مجرد وسيلة وأداة من أدوات التداول النقدي. المشكلة الحقيقية ليست نوع العملة. سواء تركية أو سورية أو أميركية. وإنما عدم اعتناء السلطات الحاكمة في المنطقة بدعم الاستثمارات الفعلية لتقوية الاقتصاد المحلي».  

ويشير الخبير الاقتصادي السوري إلى أنه «حتى قبل الحرب السورية كان الميزان التجاري السوري خاسراً في العلاقة مع تركيا.  بسبب عدم قدرة الاقتصاد السوري على منافسة البضائع التركية. فما بالك اليوم. وفي جزء محدود من الأراضي السورية. لا يشكل إنتاجه حالياً إلا أقل من 10% من الاقتصاد السوري.  بطبيعة الحال ستغرق السوق السورية في إدلب وريف حلب بالسلع التركية. وهكذا فإن تتريك العملة المحلية يزيد من سوء الوضع ولا يحسّنه».

ما علاقة تتريك العملة المحلية بانخفاض القدرة الشرائية؟

عدد من تجّار محافظة إدلب أكدوا لـ«الحل نت» إغراق السلع والمنتجات التركية لأسواق المنطقة. خاصة بعد تتريك العملة المحلية. على حساب منتجات المحافظة. أو المستقدمة عبر طرقات التهريب من مناطق سيطرة الحكومة السورية. ويؤكد عدد منهم  أن وجود كميات كبيرة من البضائع التركية يترافق مع طلب ضعيف. بسبب تقلبات الليرة التركية وانخفاض قيمتها، التي تجبر التجار على رفع أسعار بضاعتهم بشكل شبه يومي. ما يربك الحركة التجارية ويجعلها في حالة أقرب إلى الجمود.

التاجر “محمد أبو ثابت” من مدينة إدلب، ذكر للموقع عدداً كبيراً من السلع التركية الموجودة في السوق. مثل المواد الغذائية والأجهزة الكهربائية ومواد البناء والأخشاب. مشيراً إلى «وجود سلع ومنتجات أخرى غير تركية. لكنها مستوردة من السوق التركية. ومصدرها إيران وروسيا وأوكرانيا. تعرض في المتاجر بشكل اعتيادي. وتباع للزبائن بأسعار متقلّبة. تبعا لسعر تصريف الليرة التركية».

بينما يقول “أبو توفيق”، وهو أحد سكان إدلب، إنه « بعد تتريك العملة المحلية باتت أسعار البضائع التركية والقادمة من تركيا لا تتناسب إطلاقا مع دخل الفرد. والغلاء فاحش ولا يرحم. والأسعار في ارتفاع دائم دون هبوط». حسب تعبيره.

يعلّق “أسامة قاضي” على هذه الإفادات بالقول: «المشكلة الأكبر، التي تواجه مناطق المعارضة شمال غربي سوريا الآن، هي تدني القدرة الشرائية للمواطن. لأن دخله، حتى ولو تم تثبيته بالليرة التركية بعد تتريك العملة المحلية، دخلٌ بسيط جداً. ولا يكاد يكفي لشراء أساسيات الحياة اليومية».

متابعاً «بسبب عدم وجود اعتراف سياسي دولي بقوات المعارضة السورية، بوصفها نظاماً سياسياً يدير المنطقة. باتت الدول الإقليمية والمستثمرون الأجانب ينظرون لشمال غربي سوريا بوصفه أرضاً بلا سيادة. تحوي مجموعات بشرية تعيش تحت إشراف الحكومة التركية. فلا “حكومة الإنقاذ”، الذراع السياسي لهيئة تحرير الشام. ولا “الحكومة المؤقتة” المرتبطة بالجيش الوطني. تحققان سيادة فعلية على الأرض. ولا تمتلكان موازنات مالية أصلاً. حتى تقوما بتنشيط الواقع الاقتصادي في منطقتيهما. ولذلك فسيبقى المواطنون بعد تتريك العملة المحلية تحت رحمة تقلبات الاقتصاد التركي».

هل سيؤدي تتريك العملة لتدفق الاستثمارات التركية؟

وأظهرت دراسة، نشرها “مركز جسور للدراسات”، أن «التجار الأتراك. وكذلك السوريون المقيمون في تركيا. لديهم قدرات مالية أوسع من التجار المقيمين في الشمال السوري. وتتريك العملة المحلية فتح مجال التنافس. ليجعل تجّار الشمال السوري أقل قدرة على الصمود. ما يحتم خروج بعضهم من الأسواق في وقت لاحق».

إلا أن “خالد التركاوي”، معدّ الدراسة، يرجّح في إفادته لـ«الحل نت»، أن «تشهد المنطقة قريباً دخول شركات تركية جديدة للاستثمار في الشمال السوري. وذلك على خلفية التقارب الاقتصادي بين تركيا ومناطق المعارضة. وما نجم عن خطة تتريك العملة المحلية في المنطقة، وجعلها الليرة التركية أداة التداول الرئيسية فيها. من انفتاح على تجار ومستثمرين مقيمين في تركيا».

ويقدم “التركاوي” دليلاً على النية التركية بالبدء بذلك النوع من الاستثمارات بذكر «إنشاء مدينة الصناعية في منطقة “الراعي”، التي تضمّ حتى الآن اثنين وثلاثين استثماراً تركياً». ويضيف أن «هناك معلومات تشير إلى أن شركات مشتركة بين مستثمرين أتراك وسوريين تتحضّر لدخول السوق. ما سيؤدي لتنامي البنى التحتية بشكل خاص».

من جانبه لا يرجّح “أسامة قاضي” إمكانية تدفق استثمارات تركية كبيرة نحو المنطقة في الوقت الراهن. بل «كل ما نشاهده هو مجموعة من الاستثمارات البسيطة. ساعدها تتريك العملة المحلية، إلا أنها غير مرشحة للتصاعد قريباً. لأن الحكومة التركية ليست على يقين ببقائها في المنطقة. فوجود الجيش التركي رهن بما يعقد من صفقات بين واشنطن وموسكو. إصافة لعدم وجود حماية حقيقية للاستثمارات، في منطقة تشهد القصف والضربات الجوية بشكل دائم».

“القاضي” لا يستبعد «دخول استثمارات تركية ضخمة إلى المنطقة في المستقبل. بشرط التوصّل لحل سياسي للأزمة السورية. فشمال غرب سوريا غير جذّاب حالياً للاستثمار، بسبب عدم وجود سيادة على الأرض وغياب الاستقرار. وهذا الوضع لن يشجع الشركات التركية على الاستثمار الجدي. حتى لو تم تتريك العملة المحلية».

مكاسب هيئة تحرير الشام من تتريك العملة المحلية

على المقلب الآخر يشير الباحث “خالد التركاوي” إلى أن «السلطات التي تدير إدلب تمكّنت من الاستفادة من سياسة تتريك العملة المحلية بشكل عام. من خلال المضاربة بالعملة. والاستفادة من عمليات شحن الأموال الضخمة. لاسيما مع بداية ضخ العملة التركية نحو مدن إدلب وأعزاز والباب». لكنه يلفت إلى أن «استفادة السلطات لا تعني أن كبار أو حتى صغار الصرافين لم يستفيدوا مالياً من عمليات المضاربة هذه».

إلا أن المعلومات التي توصّل إليها موقع «الحل نت» تؤكد أن سياسة “المؤسسة العامة لإدارة النقد”، التابعة لهيئة تحرير الشام، قد نفّذت، بالتوازي مع عملية تتريك العملة المحلية، خطة محكمة، جعلتها تسيطر على سوق شحن المال في المنطقة. وذلك من خلال إصدار قوانين التراخيص. التي قسّمت شركات الصرافة إلى ثلاث فئات: الفئة (أ) يسمح لها بالعمل في مجالات الشحن والحوالات والصرافة. الفئة (ب) يسمح لها العمل في مجالي الحوالات والصرافة. الفئة (ج) يسمح لها بالعمل في مجال الصرافة فقط.

وأصدرت المؤسسة قراراً بمنع شحن الأموال من وإلى إدلب لغير شركات الفئة (أ). وبالتنسيق التام مع المؤسسة. ونصّ القرار على منع طلب الليرة السورية. وتجريم من يقوم بذلك. في المقابل سُمح بعرض الليرة السورية للبيع. بشرط أن يتم بيعها حصراً للشركات المرخصة ضمن الفئة (أ). أو فروع المؤسسة. ما يجعل شحن العملات الأجنبية، ومنها التركية، مُسيطراً عليه تماماً من قبل هيئة تحرير الشام. ويمنحها مكاسب هائلة بعد تتريك العملة المحلية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.