منذ سنوات عديدة، دخلت منطقة المشرق العربي في نفق من الأزمات المتتالية، وليس ثمة أفق يلوح، من قريب أو بعيد، للخروج من هذا الواقع، على الرغم من أن الحلول، في أحيان كثيرة تبدو في متناول اليد، إلا أن تطبيقاتها على الواقع الهش والخارج عن المنطق والمألوف، تبدو غير ممكنة في ظل الشروط المتوفرة حالياً.

ترجع الكثيرات من القراءات التفسيرية لواقع المنطقة، أسباب الأزمة إلى مراحل أولى من تشكّل الدول الوطنية في هذا الإقليم، حيث قضت مصالح الفاعلين الأساسيين، في تلك المرحلة، الدول الاستعمارية التي أشرفت على صناعة التكوينات الدولتية في المنطقة، إلى تشكيل أوضاع تتناسب مع خرائط انتشار مصالحها على المستوى العالمي، كأن تسيطر فرنسا على المناطق الواقعة على البحر الأبيض المتوسط “سورية ولبنان” استكمالاً لسلسلة انتشارها في شمال أفريقيا، في حين تسيطر بريطانيا على العراق المرتبط برياً بسلسلة انتشارها في مناطق أسيا الهندية وإيران.

ولمراعاة تلك الاعتبارات، تم الدوس، ليس فقط على تفاصيل كثيرة ضرورية، بل أيضاً على إمكانية تمتع هذه الكيانات بالاستمرارية والدوام، وجرت تغطية هذا العطب البنيوي من خلال اختيار نخب، غالباً تمت صناعتها في المرحلة الاستعمارية، وتم انتخابها، فقط، لاعتقاد الجهات التي أشرفت على صناعتها أنها الأقرب إلى أنماطها الثقافية والسياسية، دون الاهتمام بمدى عمق شرعيتها وقدراتها على إدارة السياسة والاجتماع في مجتمعات المشرق.

يعتقد البعض، أن تلك النخب لا لوم عليها، وليست مسئولة عما آلت له تطورات المنطقة اللاحقة والخراب الحاصل فيها، فتلك النخب، وخاصة في سورية والعراق، مارست اللعبة السياسية على أصولها العصرية والحداثوية، إنما المشكلة ان المجتمعات التي جرت ممارسة السياسة في أوساطها كانت مجتمعات قروسطية بعيدة عن الحداثة، ولم تكن عاملاً مساعداً في تطوير هذه البلدان، كما كان الشعب الياباني على سبيل المثل، الذي شكل رافعة مهمة لنقل الدولة في اليابان من حالة التخلف إلى حالة تطوّر رائدة في غضون فترة زمنية ليست بالكبيرة، قياساً بالصيرورة التطورية التي مرت بها أوروبا والتي استمرت قرون عديدة.

ثم أن هذه النخب، بأفكارها التي استقتها من الأطراف الغربية صانعة هذه الكيانات الدولتية، لم تعمّر كثيراً في الحكم، ولم يُتح لها مساحات زمنية تستطيع من خلالها تطبيق برامجها وتوطين أفكارها، إذ سريعاً ما داهمتها الانقلابات العسكرية والأحزاب الأيديولوجية والشعبوية، التي أخذت الموضوع برمته إلى مكان أخر، نعيش اليوم إفرازاته المريعة.

ليس من مهمة هذه المقالة محاكمة مراحل تاريخية تم إشباعها بالتحليل والنقد، لكن بوصفها مراحل تأسيسية، للأعطاب الراهنة، يستدعي استحضارها لمعرفة أين يبدأ رأس خيط الخراب الذي نعيشه.

إذ بالإضافة للنخب التي لم يراعى في اختيارها، لا قدراتها التشغيلية، والمقصود هنا إدارة الكيانات التي تحكمها، ولا شرعيتها، بمعنى تمثيليتها للطبقات والفئات والمكونات المحلية، وفي مرحلة لاحقة أصبحت نخب مغتصبة للسلطة وأمر واقع، بالإضافة لذلك، كان التدخل الدولي والإقليمي إحدى عناصر الخلل في سياق مسار المنطقة صوب مآزقها السياسي والاجتماعي الراهن.

وبالإضافة للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، اللتان أثرتا بدرجة كبيرة في صياغة الأحداث وتوجيهها في المنطقة، برزت التأثيرات الإيرانية والتركية والإسرائيلية، من خلال محاولتها توظيف الخلل في بلدان المشرق، وأحياناً المساهمة في صناعته، لأهداف تخدم مشاريعهما الجيوسياسية، وخاصة إيران وتركيا، بالاستناد إلى أبعاد دينية وحوامل طائفية، لينتهي الأمر إلى صناعة مشهد معقّد ومتداخل، باتت فيه السياسات المحلية ذات أبعاد إقليمية ومداخلات دولية متشابكة.

وتسعى جميع الأطراف المتدخلة في اللعبة الجهنمية الدائرة في المشرق إلى السيطرة عليه والتحكم بالتطورات الجارية فيه، بما فيها محاولة صناعة هياكل سياسية وعسكرية، الأمر الذي أدخل المنطقة في سلسلة تحولات نوعية ومعقّدة، يصعب التكهن بنتائجها، حتى لو استطاع فريق الانتصار في هذه المرحلة وفرض الاستسلام على الفريق الأخر، فإن ذلك لن يعني نهاية، بأي حال من الأحوال، أن الأمور ستستقر أو تسير بسلام إلى نهايات سعيدة.

لقد خلقت الأزمة الدائرة في المنطقة خطوط صدع كثيرة، داخل كل دولة من دول المشرق، ولا توجد سياسات مبشرة في المنطقة بإمكانية ردم هذه الخطوط، والتي من المرجح ان تشكّل توجهات أساسية في المرحلة المقبلة، بعد يأس المجتمعات من إمكانية إيجاد دولة وطنية عادلة تكون للجميع، وليس لعائلة أو حتى طائفة ومكوّن، كما أن التدخلات الخارجية، وخاصة الإقليمية، باتت عميقة لدرجة يصعب تفكيكها في ظل الافتقار للأدوات السياسية العصرية والشرعية، والتي يتم، عن قصد، وأدها وإبعاد أي إمكانية للوصول إليها.

بعد وأد الثورات، بطريقة عنيفة وقاسية، وكثافة حجم التدخلات الخارجية، يمكن القول أن المنطقة لن تسير، بالأدوات الحالية، باتجاه إعادة التشكيل والاندماج، المجتمعي والدولتي، وإنما نحو المزيد من التفكك والتصدع، وسيزيد من حدة هذه التوجهات، الصراع الخارجي الذي لا يرى في المنطقة سوى ممرات و بنى وسلاسل وإطلالات في مشاريعه الجيوسيا سية، دون أي اعتبار للبشر الذين يقطنون هذه المناطق.

منذ أعوام، تنبأ الإستراتيجي الأمريكي، روبرت كابلان، الباحث في كيفية تشكل الخرائط السياسية عالميا،  في كتابه” انتقام الجغرافيا”، بأن منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد منها سوريا والعراق، ستتحوّل إلى أرض طاردة للحياة البشرية، وستتفكك الدولة في هذا الحيز الجغرافي، وتتحوّل السلطة فيها إلى العشائر والإثنيات، وسيتم إلحاق هذه المناطق بدول الجوار، حيث ستتغير الخريطة، وتزول دول بكاملها، وتظهر كيانات جديدة.

لم يتطرق كابلان في الخلاصات التي توصل لها إلى صراعات أهلية ولا مشاريع جيوسياسية، بل بنى توقعاته تلك على أساس معطيات بيئية، مثل انحباس الأمطار وجفاف الأنهار، بما يعني استحالة وجود نشاطات اقتصادية، وبالتالي حياة بشرية في هذه المنطقة.

المؤكد، أن تقاطع تلك المعطيات، مع الوقائع السياسية الجيوسيا سية في المنطقة مرشح لصناعة أهوال كثيرة في منطقة منكوبة بأطماع خارجية ونخب منحرفة، فقد تم استنزاف ثروات المنطقة وطاقات مكوناتها بسبب الفساد والنهب الخارجي وحروب لا غاية منها سوى إعادة بعث أمجاد إمبراطوريات زالت وتجاوزتها حركة التاريخ.

 المشرق اليوم يقف على فوهة بركان، لن ينقذه احد من المصير القاتم سوى عقلانية أبنائه وإرادة الحياة والاستمرار لديهم، فهل نرى ما يخالف صورة هذا المشهد السوداوي؟.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة