النفوذ التركي في سوريا بين مطرقة العمل العسكري وسندان التفاهمات

النفوذ التركي في سوريا بين مطرقة العمل العسكري وسندان التفاهمات


تتوعد تركيا بعملية عسكرية في الشمال السوري، ضد قوات سوريا الديمقراطية، وتحشد قواتها، بالإضافة إلى فصائل الجيش الوطني السوري المعارض الموالية لها؛ ويبالغ الإعلام التركي في تضخيم الهدف من هذه العملية التي تنتظر ساعة الصفر، بالقول أنها ستشمل مساحة 500 كيلومتر مربع، وبعمق 50 كم في بعض المناطق. فيما تستعد لمواجهتها قواتُ سوريا الديمقراطية، بمكونيها الكردي والعربي، ويدعمها موقف النظام وروسيا من جهة، ومن الولايات المتحدة والتحالف الدولي من جهة أخرى، وجميعهم رافضون للعملية العسكرية التركية.
ترغب أنقرة في توسيع رقعة منطقتها الأمنية لتصبح متصلة على كامل حدودها مع سوريا، لتشمل إدلب وتل رفعت و منبج حتى كوباني، وصولاً إلى تل تمر عين عيسى الإستراتيجيتين، متحججة بخطر حزب العمال الكردستاني والوحدات الكردية المشاركة في قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا، وتستجدي دعماً أوروبياً وأمريكياً متذرعة برغبتها بإعادة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الآمنة التي تروج لإنشائها.
تستشعر أنقرة، في الواقع، تهديداً بتحجيم نفوذها في سوريا، وتخشى من توافقات أمريكية روسية بهذا الشأن، خاصة بعد التقارب بين واشنطن وموسكو، واللقاءات المتكررة بين قادة عسكريين ودبلوماسيين من الطرفين (اجتماع قادة الأركان في هلسنكي، والاجتماعات المتكررة في جنيف بين غريت ماكغورك، المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وسيرغي فيرشينين، نائب وزير الخارجية الروسي، والكسندر لافرنتييف، المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا)؛ ويزعج تركيا أن الطرف الأمريكي أبدى ليونة في الشأن الإنساني بقبوله ببعض الشروط الروسية بشأن تمديد قرار دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى ودمشق وعبر خطوط التماس، والحديث الأمريكي عن صيغة “الإنعاش المبكر”، والقبول بإعفاء مشروع تمرير خطوط الطاقة من الأردن إلى لبنان عبر سورية، من العقوبات الأمريكية، وغض النظر الأمريكي بشأن تطبيع بعض الدول العربية مع النظام، وتوجيه أمريكي لقوات سورية الديمقراطية بالتقارب مع روسيا، التي تتوسط بدورها لإجراء حوار بينها وبين النظام، حول إدارة المنطقة.
بعيداً عن لغة التهديد والتضخيم التي اعتاد المسئولون الأتراك قولها قبل كل عملية عسكرية، فإن فرصة أن ينفذ أردوغان تهديداته تلك ضئيلة، بسبب ضعف الموقف التركي، وعدم الحصول على ضوء أخضر أمريكي خلال لقاء أردوغان و بايدن في روما نهاية الشهر الفائت، ولا موافقة روسية خلال قمة أردوغان و بوتين في سوتشي قبل شهر منه.
تتداخل مناطق النفوذ في الشرق جغرافياً، وتتواجد فيها قوات وقواعد تابعة لأمريكا وروسيا وتركيا، وأي عمل عسكري من الجانب التركي سيعني احتمال الاصطدام مع الطرفين الأمريكي أو الروسي، الأمر الذي لا يرغب به أي طرف.
تملك روسيا ورقة التهديد بفتح معركة إدلب، ومعها فتح النقاش حول تقصير تركيا بشأن حسم ملف هيئة تحرير الشام والجهادية عموماً، وفتح الطريق الدولي إم4، تنفيذاً للاتفاقات السابقة بين الطرفين (سوتشي 2018، وموسكو 2020)؛ حيث تشكل هيئة تحرير الشام عبئاً على تركيا، وفي نفس الوقت، ذريعة لروسيا والنظام لاستعادة مناطق في إدلب والأرياف المحيطة بها بحجة مكافحة الإرهاب.
رغم ذلك، ربما لا تمانع موسكو بفتح عملية عسكرية محدودة ضد قوات سوريا الديمقراطية، بغرض إضعاف المكون الكردي، وإخضاعه للشروط والمقترحات الروسية، كأن يحصل النظام على 75 بالمائة من نفط المنطقة، وأن يقوم بإدارة سد الفرات، ورفع العلم السوري فوق المقرات الرسمية، وانسحاب الوحدات الكردية إلى عمق 32 كم جنوب الطريق الدولي إم4، وتسليم بعض المناطق لوحدات من النظام إضافة إلى الشرطة العسكرية الروسية، مثل مدينة عين عيسى الإستراتيجية، وتل رفعت، وذلك مقابل الإقرار بالحقوق المشروعة لكرد سوريا، واعتماد اللامركزية. أما النظام السوري، فلا يقبل بغير عودة سيطرته على كامل منطقة شرق الفرات، كما في السابق.
سياسة الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن، تجاه سوريا، أعطت أهمية لملف المساعدات الإنسانية، ولم تمنع قيام بعض العواصم العربية بإعادة العلاقات مع دمشق، لكنها لم ترحب بها أيضاً، وما زال قانون قيصر مهدداً لأي شكل من العلاقات، الاقتصادية خصوصاً، يتجاوز ممنوعاته؛ ونهاية تموز الماضي تم فرض قائمة جديدة من العقوبات، ولم تقرر آلية تمويل مشروع إصلاح خط الغاز من البنك الدولي، وما زالت التصريحات الأمريكية الرسمية تؤكد على الالتزام بالقرار ألأممي 2254.
هذا يعني أن واشنطن لن تكون مرحبة بالمساعي الروسية لوصول قوات من النظام، ومعها مليشيات إيران، إلى الحدود التركية؛ وهذا يفسر أن واشنطن أرسلت 50 شاحنة من الذخيرة إلى قوات سوريا الديمقراطية، عبر معبر الوليد مع العراق، بعد أيام من قمة روما بين بايدن و أردوغان؛ وبالتأكيد فإن واشنطن غير سعيدة بتزايد الانتشار العسكري الروسي شرق الفرات، وقرب القواعد الأمريكية، وفي القامشلي والرقة، للضغط على أمريكا للانسحاب من سوريا، وترك شرق الفرات لروسيا. وفي هذا السياق قد تتعامل واشنطن مع التواجد التركي في سورية كورقة ضغط على روسيا.
وسط احتمالات أن تفتح تركيا معركتها، تبرز عدة محاولات للتنسيق فيما يتعلق بالمنطقة؛ فهناك مباحثات روسية تركية في أنقرة الأسبوع المقبل، قد يطرح فيها ملفات تل رفعت و منبج وفتح الطريق إم4، وهناك دعوة روسية إلى لقاء جديد لوزراء خارجية دول “ضامني أستانة” منتصف الشهر المقبل؛ وهناك خط مستمر أمريكي- روسي للتنسيق العسكري والدبلوماسي، حيث سيجتمع مجدداً ماكغورك و فرشينين و لافرنتييف في جنيف، الأسبوع المقبل.
لكن الصورة التي تخشاها أنقرة باتت واضحة، خاصة بعد لقاء بينيت و بوتين الشهر الماضي، وتوفقهما على تحجيم إيران، وهي رغبة أمريكية وعربية أولاً، فيما يأتي تحجيم تركيا في المرتبة الثانية بالنسبة لهذه الدول.
أخطأت روسيا في مراهنتها على انفتاح أمريكي حول القبول ببقاء النظام السوري، أو حول القبول بإعادة إعمار جزئي؛ في حين أن هناك ملفات شائكة تحتاج إلى حل ومنها إدلب وهيئة تحرير الشام، ومصير شرق الفرات، وتحجيم إيران، ومنها أيضاً حجم التواجد التركي. وقد تحفل الأسابيع القليلة القادمة بتوافقات روسية تركية، وأخرى بين روسيا والإدارة الذاتية، إذا لم تتورط أنقرة فعلاً بعمل عسكري أرعن، وهو أمر مستبعد حالياً.

white_check_mark
eyes
raised_hands
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.