لو أن تحقيق الرفاهة والاستقرار والأمن للمنطقة يمر إجباريا عبر التطبيع مع الأسد لكان هذا الفعل خطأ سياسياً، وفعلاً غير منطقياً، وفي وقت تشير فيه  كل المعطيات إلى أن هذا التطبيع سيكون سبباً في استدامة الأزمة، ليس على رأس السوريين فحسب، بل وعلى الإقليم والعالم، فإن ذلك يستوجب الحديث بشفافية وصراحة عن المآل الذي ستصل له هذه السياسات.

بعد تراجع فرص إسقاط الأسد، نتيجة سياسات الأرض المحروقة التي اتبعها، بدعم كامل من روسيا وإيران، ظهرت معادلة، وإن لم تكن عادلة وأخلاقية، إلا إنها تشكل امتثالا، بالحد الأدنى، لمقولة” السياسة هي فن الممكن”،

 و تنص على أن خضوع الأسد لمقتضيات عملية السلام في سورية هو الممر الوحيد للتطبيع مع النظام، وقد توافق المجتمع الدولي على ذلك بقرار مجلس الأمن 2254 ومندرجاته.

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم، ألا يعني التطبيع مع الأسد، دون تحقيق الشروط التي طالب بها المجتمع الدولي، عبر قرار مجلس الأمن، تدميراً مقصوداً للمعادلة المذكورة، وإحلالا بدلاً منها معادلة أخرى تنص على أن استقرار المنطقة، وربما نماؤها يمر عبر التطبيع مع الأسد؟، من استطاع تدوير هذه المعادلة وبهذه الحدّة؟.

من الواضح أن المحرك الأول للتطبيع مع نظام الأسد هي الأنظمة العربية، ولم يعد في ذلك شكاً، لكن دائما ثمّة سؤال يطرح نفسه بقوّة، ما الذي ستستفيده الأنظمة العربية من نظام متهالك؟ ما الذي ستضيفه لها العلاقة مع هذا النظام على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية؟ وهل إعادة العلاقة معه ضرورة ملحّة في هذه المرحلة؟.

وإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة باتت بديهية ولا تحتاج حتى لنقاش بخصوصها، يبقى السؤال الأهم، من هي الجهات المستفيدة من إعادة العلاقة مع نظام الأسد؟.

 ثمّة مقولة للكاتب الأردني فهد الفانك ربما تفسر هذه الفانتازيا، إذ يقول: إن الواقع العربي لا يكاد يسلم نفسه للتحليل العلمي بسبب كثرة المتغيرات وتقلبها، وفي كثير من الأحيان تمردها على المنطق العلمي نتيجة بعض التصرفات والسياسات المزاجية غير المحسوبة، في حين ان الباحث مضطر لافتراض معقولية صانع القرار العربي.

هناك الكثير من الأفعال والسلوكيات التي تحصل في متن السياسة العربية يعجز العقل عن تفسيرها إذا استخدم الأدوات المنطقية في ذلك، وهناك الكثير من الظواهر السياسية يصعب فهمها إذا تمت مقاربتها بالأدوات التحليلية الحديثة، لذا في الغالب يصعب التنبؤ بقرارات صانع القرار العربي ولا معرفة أنماط الاستجابات الممكنة تجاه أزمات وقضايا سياسية معينة، وهذه الظاهرة لا تقتصر على السياسة بل هي موجودة في مختلف الأصعدة نظراً لتأثرها بالحاكم الشمولي الذي يشرف على كل صغيرة وكبيرة في الحياة العامة في بلدان الشرق الأوسط .

ويمكن ببساطة تحليل سلوكيات الأنظمة العربية من خلال خريطة المصالح التي تؤشر عليها القرارات السياسية، فليس سراً، أن الأسد بات محسوباً على الثورات المضادة في مواجهة الحراكات الشعبية، بذريعة أن القوى الإسلامية ركبت هذه الحراكات، وبالتالي فإنها أصبحت تشكّل مصدر خطر على الكثير من الأنظمة التي لديها مشاكل مع الإسلاميين في بلادها، وعند مفاضلة الأسد بالإسلاميين من المؤكد أن كفة الأسد سترجح، لكن المشكلة أن الأسد بات محاطاً بجملة من المخاطر التي لا يمكن التعايش معها لا عربياً ولا إقليمياً.

وليس سراً أن الأسد ارتبط  في السنوات الأخيرة، بدرجة كبيرة، بالمافيات العالمية من أجل تأمين الموارد الضرورية لحربه ضد السوريين، وحوّل سورية إلى مركز لنشاط هذه المافيات، والتي كان لها صور وأشكال عديدة، من تهريب المخدرات إلى تهريب البشر والتجارة بالأعضاء البشرية، بالإضافة إلى تزوير العملات وربما الماركات وحقوق الملكية، وهذه المافيات استوطنت في سورية، حيث أسست مزارع للحشيش ومكاتب للتجارة المشبوهة، وتبحث بشكل دائم عن أسواق لمنتجاتها بأي طريقة وشكل، ودليل ذلك حجم شحنات المخدرات التي يتم إلقاء القبض عليها مهربة داخل منتجات مصدرها سورية أو لبنان.

وبالتوازي مع ذلك، وما لم تلحظه الدراسات الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة، برزت فئات في مرحلة الفوضى في المنطقة، نتيجة قيامها بأعمال مشبوهة، أصبحت فواعل مهمة ومراكز قوى مؤثرة في السياسات الإقليمية، ينخرط بها رجال مخابرات وتجار ووجهاء، على شكل شبكات تنتشر في الإقليم، ومن غير المستبعد أن تكون فروع لشبكات دولية أوسع وأكبر.

هذه الأطراف، كما التنظيمات الإرهابية المتشعبة في المنطقة، تغلغلت في النسج الاجتماعية، وباتت بحكم الفوضى التي سببها الأسد، أطراف موجودة بحكم الواقع، وطالما بقي الأسد بفكره الإجتثاثي، ستكون هذه الأطراف أدوات ضرورية لاكتمال اللعبة.

على ذلك، فإن العلاقة مع الأسد ليست مكسباً، وإذا كان هناك توهم ما بأن الأسد سيكون نصير الأنظمة العربية في مواجهة الإسلاميين، فعليهم إعادة حساباتهم وقراءة مسار سلوك الأسد منذ سنوات حكمه الأولى، إذ رغم العداء الظاهري بين الطرفين، إلا أنهما ارتبطا لسنوات طويلة في علاقات تخادمية، في حرب العراق مثلاً التي ارتكبت فيها التنظيمات المتطرفة مجازر هائلة، بمساعدة الأسد، وباعتراف نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق، الذي سبق وأن هدّد بتقديم شكوى للأمم المتحدة ضد الأسد الداعم للجماعات الإرهابية.

يستحيل على الأنظمة العربية التوصل إلى حالة من الاستقرار والأمن في ظل وجود معادلة تحتوي على الأسد والجماعات الإرهابية،  وبدائل هذه المعادلة إجبار الأسد على الانخراط في الحل السلمي عبر تنفيذ مندرجات قرار مجلس الأمن 2254 ومنح السوريين الحق في اختيار شكل ونظام الحكم الذي يناسبهم، أما الخيارات المتاحة للدول العربية فهي متوفرة، أقلها استمرار مقاطعة نظام الأسد وحصاره ودعم القوى الديمقراطية المناوئة له، بدون ذلك، على الأنظمة العربية أن تتوقع استمرار الأزمات في محيطها وربما تطورها لاحقاً إلى كوارث.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة