نلحظ مجددا تداخلا مربكا في صورة المشهد الإقليمي والسوري خصوصا، انعكاسا لحالة الفوضى الإقليمية ونسبيا الدولية السائدة في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يجعلنا في بعض الأحيان مربكين ومشوشين وغير مدركين أبعاد التطورات (ربما الأصح الانتكاسات) الحاصلة إقليميا وسوريا.

 فمثلا لا يمكن الخلاف حول مركزية الدور الروسي في سورية اليوم، كما لا يمكن تجاهل المساعي الروسية الحثيثة الهادفة إلى إعادة دمج النظام السوري في النظام الرسمي العربي والإقليمي.

لكن نادرا ما تساءلنا عن شكل هذه العودة في الرؤية والمصلحة الروسية، ونادرا ما تعمقنا في موقف إيران منها، أو بالأصح موقف إيران من شكل هذه العودة، بغض النظر عن فرص النظام في تحقيق هذه العودة من عدمها.

فمن ناحية أولى تعتبر سورية ورقة روسيا الوحيدة أو شبه الوحيدة إقليميا، بحكم سيطرتها العسكرية؛ والسياسية ونسبيا الاقتصادية عليها، في حين تسيطر إيران على ثلاثة عواصم عربية إلى جانب سيطرتها على دمشق هي بغداد وبيروت وصنعاء.

وعليه تملك إيران ثلاثة أذرع عسكرية إقليمية إلى جانب ذراعها العسكري في سورية، في حين ينحصر الوجود العسكري الروسي الإقليمي في سورية وحدها وبشكل أقل حضورا ونفوذا في ليبيا وربما الجزائر أيضا.

 لذا تجد روسيا في سورية ورقتها الرابحة إقليميا وبدرجة أقل دوليا، ما يفرض عليها الحذر في لعب هذه الورقة خشية من خسارتها، فمن ناحية تسعى روسيا إلى دمج النظام السوري في النظام الرسمي العربي والإقليمي والعالمي، لكنها تخشى من انخراطه في هذا النظام .

واحتمالية عودته كفاعل رسمي واضح. أي تحاول روسيا طوي صفحة الصراع الدولي في سورية، من خلال تثبيت وجودها وانتزاع اعترافا دوليا بشرعية سيطرته على سورية، وهو ما يتطلب اعترافا بشرعية النظام الذي سلمها سورية على طبق من ذهب.

 مجرد اعتراف دون أي حوامل سياسية أو اقتصادية أو أمنية أخرى، إذ يجب أن تمتلك روسيا وحدها الحق في إدارة وتنظيم هذه الحوامل، ويفضل حصرها بحدها الأدنى أيضا، كي لا تتحول لاحقا إلى مصدر خطر يهدد المصالح والوجود الروسي في سورية مستقبلا.

بمعنى أخر تحرص روسيا على منع اندماج نظام الأسد في النظام الدولي وممارسته لمهامه المطلوبة منه دوليا وإقليميا، فعودة دور النظام خارج حدود سورية الجغرافية تعني تمكين النظام من التحكم في زمام الأمور، أو على الأقل تمكينه من التأثير على بعض المسائل الإقليمية والدولية، وبالتالي تعزيز مكانته وقوته السياسية بمعزل عن الإرادة والرغبة الروسية، أي سوف يمنح ذلك التمكين الأسد شيء من الاستقلالية الإدارية وربما السياسية عن روسيا، ما سوف يؤدي إلى خسارة روسيا للورقة السورية عاجلا أم أجلا في هذه الحالة.

بينما تنظر إيران إلى علاقة النظام السوري مع النظام العربي والإقليمي والدولي من زاوية مختلفة، بحكم اختلاف الظرف الإيراني، إذ قد تلعب سورية دورا محوريا في إقرار النظام العربي والإقليمي بمجمل الدور الإيراني.

 لذا تضغط إيران في اتجاه عودة دور الحكومة السورية الإقليمي والعربي، بما يتجاوز عودة حضورها في الاجتماعات واللقاءات الإقليمية، بل لا تحصر إيران ذلك بسورية فقط، بل تضغط من أجل ممارسة ذات الوظيفة عبر أدواتها في كل من لبنان والعراق.

 لأن أولويتها الراهنة تكمن في انتزاعها مكانة ودورا إقليميا واضحا، فعلى الصعيد اللبناني نجد أن النظام اللبناني المشكل وفق أهواء المليشيات الموالية لإيران (حزب الله وحركة أمل)، يساهم في تكريس دور إيران إقليميا، من خلال سيطرة أدواتها على ملف ترسيم الحدود الذي أداره نبيه بري شخصيا؛ وفق تصريحاته؛ وعلى ملف الطاقة عموما، عبر استيراده من إيران أولا، وعبر الاتفاق الرباعي بين لبنان والأردن وسورية ومصر.

في حين يمسك العراق وحيدا بملف المباحثات والمفاوضات الإيرانية- السعودية، التي تكاد تصبح ورقة حاسمة لمستقبل العلاقات بين دول المنطقة، وربما تؤثر على مستقبل المنطقة كذلك، فضلا عن دورها في حسم شكل علاقة ودور إيران على الصعيد الدولي، وطبيعة تحالفاتها المستقبلية، بحكم ترابط المسارين التفاوضيين في فينا وفي بغداد.

وعليه وبعد التدقيق في مظاهر التطبيع العربي مع نظام الأسد مؤخرا، نلحظ ميلها نحو استعادة دور النظام السوري الاستراتيجي والأمني والسياسي، أي أنها تتجاوز مجرد عودته الشكلية كجزء من النظام العربي والإقليمي، وهو ما يتوافق مع الرؤية والمصلحة الإيرانية ويتعارض مع الرؤية والمصلحة الروسية.

إذ يبدو من تطورات العلاقة العربية- السورية مؤخرا مرورها عبر بوابتين، الأولى البوابة الاقتصادية التي يمثلها مشروع خط الطاقة والغاز العربي من مصر (غالب الظن من “إسرائيل”) وصولا إلى لبنان وربما إلى تركيا، فهذا الاتفاق يتطلب ضوءا أخضرا أمريكيا وإيرانيا بذات الوقت.

 فجميعنا يعلم حاجة مثل هذا الاتفاق للموافقة الأمريكية التي تحرر المتفقين من نيران العقوبات الأمريكية وهو ما وضحته بعض التصريحات الأمريكية حول هذا الشأن.

 لكنه يتطلب أيضا موافقة إيرانية رغم عدم صدور تصريح واضح وصريح بها، لكنها موافقة متضمنة مسبقا في التوجه اللبناني بل وحتى السوري، فمن غير الممكن أن تتوجه الحكومة اللبنانية نحو اتفاق لا يقبله حزب الله وحركة أمل، في ظل سيطرتهما الأمنية والاقتصادية والتشريعية والسياسية.

 وبالتالي فمباركة الحزب والحركة تعني ضمنا مباركة إيران كذلك، وعليه فإيران قبلت بهذا الاتفاق إن لم تكن قد رعته، انطلاقا من مكاسبها الجيوسياسية الكامنة خلفه، ولاسيما بما يخص تحكم سورية بأهم مسارات تصدير الغاز من مصر نحو الدول الإقليمية وربما نحو الدول الأوروبية مستقبلا.

أما بوابة التطبيع الثانية فهي البوابة السياسية، من خلال دور دمشق في تطوير العلاقة الإماراتية- الإيرانية أولا وعلاقة النظام الرسمي العربي مع نظيره الإيراني ثانيا، وكأن سورية هنا تكمل الدور العراقي في هذا الشأن، بكل الأحوال قد يكون من المبكر الحديث عن دور دمشق السياسي على صعيد دمج إيران في النظام الرسمي الإقليمي، لكن ملامح هذا الدور أخذه بالتبلور هذه الأيام، وغالب الظن سوف تتكشف تفاصيلها في قادم الأيام.

من كل ذلك اعتقد أن روسيا تخشى من ملامح التطبيع العربي مع نظام دمشق، تماما كما تخشى من احتمالات التطبيع التركي معه (رغم محدوديتها حاليا)، الأمر الذي سوف يدفعها نحو عرقلة هذه المسارات من خلال محاولة تأزيم علاقة إيران مع الإقليم والأهم مع الدول الموقعة على الاتفاق النووي، فكلا الملفين مرتبطان ببعضهما البعض، وكذلك من خلال محاولتها اخراج تركيا من معسكر التحالف الإقليمي الأخذ بالتشكل مع النظام الرسمي العربي والنظام الإيراني، وأخيرا من خلال زعزعة استقرار نظام الأسد بكل الوسائل والإمكانيات التي تمتلكها.

 وعليه فنحن مقبلين على مرحلة جديدة في المنطقة، قد تشهد أحد احتمالين، إما تشكل تحالف رسمي إقليمي يشمل مجمل الأنظمة المسيطرة على جغرافية المنطقة دون أي استثناء، تحالف يهدف إلى استعادة وحدة النظام الرسمي الإقليمي في مواجهة تصاعد الخطر الثوري الشعبي أولا، وفي مواجهة المصالح والسيطرة الروسية ثانيا، وهو الاحتمال الأرجح في تقديري، استنادا إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي غير المعلن وغير المباشر في دعم هذا الاحتمال.

أما الاحتمال الثاني فهو يعكس نجاح روسيا في ضبط علاقة الأسد بمحيطه الإقليمي بما يشمل علاقته مع النظام الإيراني، وهو ما سوف يتطلب تقليص الدور الإيراني في سورية حتى حدوده الدنيا، إن لم يكن كليا، كما قد يتطلب تصاعدا في المواجهات العسكرية بين أدوات إيران في سورية وربما في محيطها أيضا من ناحية، والقوات العسكرية المحسوبة على روسيا من ناحية ثانية، الأمر الذي قد يعيد المنطقة إلى مربع التصعيد العسكري مجددا، تصعيد سوف يعيد فتح جميع الأبواب ويؤجج جميع المطامح الدولية والإقليمية في سورية وعليها.

إذا المنطقة مقبلة على مرحلة أكثر وضوحا من سابقتها، مرحلة لن يخفي فيها النظام الرسمي الإقليمي عدائه المطلق لمصالح شعوب المنطقة، مرحلة سوف تعكس وحدة النظام الرسمي الإقليمي في معركة أسر شعوب المنطقة ونهب ثرواتها وأحلامها، مرحلة سوف تتطلب أكثر من سابقتها أعلى درجات التنسيق والتعاون بين الحركات الثورية الشعبية على مستوى المنطقة الإقليمية كاملة من الناطقين باللغة العربية ومن الناطقين بغيرها كذلك، وهو ما قد يحدد شكل المنطقة في المديين المتوسط والبعيد إن وعت شعوب المنطقة دورها وقدراتها وترابط أو تقارب مصالحها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.