يتشكّل سياق إقليمي ودولي ضاغط على إيران، يوحي بوجود تفاهم ضمني بين شبكة من الفاعلين على تلك الصعيد، لحصار نفوذ إيران إلى أبعد حد، بعد الدور التخريبي الذي مارسته، وكان من نتيجته اختلال التوازنات الاجتماعية في المنطقة وخلق بنى موازية لسلطات الدول فيها لتعزيز نفوذها وترسيخ مصالحها على حساب مكونات المنطقة وكياناتها السياسية.
في هذا السياق، جاء الحظر الذي أعلنته أستراليا على الجناح السياسي لحزب الله بعد وصمه بالإرهاب، بعد أن كانت هذه الصفة مقتصرة على الجناح العسكري للحزب، لتنضم أستراليا إلى مجموعة دول غربية وأمريكية لاتينية، صنفت الحزب بجناحيه السياسي والعسكري كمنظمة إرهابية وحظرت نشاطاتها على أراضيها، ويبدو أن قائمة الدول التي ستحظر الحزب وتصنفه إرهابيا ستطول في ظل ممارسات الحزب الخارجية.
يحاجج حزب الله بأن مواقف هذه الدول تنطلق من انحيازها لإسرائيل وبأمر من الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار أن الحزب يقود تيار المقاومة ضد إسرائيل والمشاريع الأمريكية في المنطقة، كما يدّعي الدوام تمتعه بحاضنة شعبية كبيرة في المنطقة ما يجعله غير متأثر بقرارات الحظر الغربية، بالإضافة لذلك يزعم الحزب أن إيران هي التي تموّل نشاطاته المدنية والعسكرية، وبالتالي فهو لا يتأثر بأي قرار تتخذه الأطراف الخارجية ضده.
ليس سراً أن حزب الله، وجميع أذرع إيران في المنطقة، يستخدمون المقاومة كواجهة أمامية لإخفاء سياساتهم ومصالحهم، والتغطية على البعد الحقيقي لجوهر وجودهم كأطراف خادمة للمشروع الإيراني في المنطقة، تتعيش على خلق الأزمات في دولها و بالإستقواء على شعوب هذه الدول وتعطيل السياسة و تأزيم الاجماع، بحيث تصبح هذه الكيانات على حافة الحرب دائماً بعد أن نخرها الفقر والجوع.
بالتصنيف الإيراني، يعتبر حزب الله جوهرة أذرع إيران الخارجية وأهم استثمار لها، حيث يشكّل وجوده بالقرب من إسرائيل رأس مال إضافي لإيران وهبة إلهية، تستثمره في المزاودة على الأنظمة العربية بأنها وحدها من يحمل عبء القضية الفلسطينية من خلال المناوشات الصغيرة التي يجريها الحزب بين عام وآخر على حدود إسرائيل، عبر طلقة كلاشينكوف من هنا أو قذيفة أربي جي على المناطق الفارغة قرب الشريط الحدودي.
لكن الاستثمار الأهم بالنسبة لإيران، هو نشاط حزب الله الخارجي، الذي هو عبارة عن خليط من أعمال إرهابية ضد أهداف مدنية يجري تصويرها على أنها أهداف مخابراتية، مثل تفجير الحافلة التي تقل ركاب إسرائيليين في مطار مدينة بورغاس البلغارية، في تموز/يوليو 2012، أو تجارة المخدرات وعمليات تبييض الأموال، حيث يرتبط حزب الله مع شبكات مافياوية في دول أمريكا اللاتينية والوسطى، وقد تنبهت هذه الدول للأعمال الإجرامية التي يقوم بها الحزب وبدأت بمساعدة المخابرات البريطانية مطاردة أعضائه والحجز على أموالهم.
في جميع هذه العمليات، يورّط حزب الله الجاليات اللبنانية، وخاصة منها الأفراد الذين لا زالت لهم ارتباطات عائلية داخل لبنان، إذ يضطرون لمسايرة الحزب، إما لتحاشي الأذى الذي قد يسببه لهم، أو طمعاً في تقديم الخدمات لأقربائهم في لبنان “حسب قول الصحفي على الأمين في حديث مع جريدة الشرق الأوسط اللندنية”، ويستفيد الحزب، ومن وراءه إيران، من خبرة أبناء الجالية وعلاقاتهم مع مجتمعات الاغتراب، إلا أن سياسات حزب الله غالباً ما تعود بالضرر على أبناء الجالية اللبنانية حيث تضعهم أجهزة تلك الدول تحت المراقبة وأحيانا تصادر أموالهم وممتلكاتهم إذا ثبت وجود صلة لهم مع حزب الله، وبحسب الأنباء، أجرت السلطات الأسترالية اجتماعات مكثفة مع الجالية اللبنانية التي يتركز وجودها في سيدني وملبورن، وحذرتهم من أن أي شخص سيثبت تعامله مع حزب سيفقد مبررات إقامته في البلاد.
تكشف حيثيات قرار أستراليا حظر الجناح السياسي لحزب الله، المواصفات الحقيقية للحزب الذي يدعي أنه يقود حركات المقاومة، ليس في المنطقة بل في العالم كله، فالحزب مدان من قبل أستراليا لأنه مارس أعمال إرهابية مباشرة على أراضيها، محاولة زرع متفجرات في سيدني أثناء انعقاد دورة الألعاب الأولمبية سنة 2000، أو لأنه استخدم الأراضي الأسترالية للتخطيط لعمليات إرهابية خارجية، أو لقيامه بتجارة المخدرات وتبييض الأموال، وليس في هذه القائمة من الأعمال ما يؤشر على وجود عنصر للمقاومة، بل شبكة إجرامية خارجة على القوانين تهدّد سلم وامن المجتمعات الدولية.
من المؤكد أنه ليس الربح المادي فقط، على أهميته، هو الهدف من وراء هذه السلوكيات، بل هي سياسة إيرانية هدفها إرهاب المجتمع الدولي وابتزازه لتعظيم قدرة إيران التساومية في ملفات تفاوضها مع المجتمع الدولي، سواء ما تعلق بملفها النووي أو سياساتها الإقليمية التخريبية، وهي تبتغي من وراء هذا السلوك حشر خصومها في زاوية الانكفاء وغض النظر عن سياسات إيران، والوصول معها إلى تسويات تكون لصالح إيران، إذ في جميع الأعمال التي يتولاها وكلاؤها لا تظهر إيران في الصورة، بل تستطيع القول أن لا علاقة مباشرة لها بالأحداث التي يقوم بها أولئك، وبين السطور توجه إيران رسائلها الابتزازية للأطراف المستهدفة بمحتوى واضح وصريح: اخضعوا لشروطنا ولا تضغطوا علينا.
لكن يبدو ان المجتمع الدولي يسير في اتجاه تنسيق موقف موحد من السياسات الإيرانية ويضع إستراتيجية لمواجهتها، أولى بنود هذه الإستراتيجية إضعاف أوراق إيران من خلال حرق أدواتها وكشف طريقة لعبها المخالفة لكل أشكال التعاطي الدولي، فهذا النمط من الألعاب، الذي مورس من قبل بعض الحركات في القرن الماضي لم يعد مقبولاً واللعب بات مشروطاً بقواعد واضحة أهمها عدم مخالفة تلك الشروط.
وبناء على ذلك، بات النفوذ الإيراني في المنطقة، من العراق إلى سورية ولبنان، تحت المجهر الدولي، وبات حتى من يصنفون بخانة الأصدقاء في القائمة الإيرانية يشاركون الأطراف الأخرى في الضغط على إيران لتغيير سلوكها وكف يدها نظراً للتداعيات السلبية التي أنتجتها تدخلاتها على دول المنطقة، وقد بدا واضحاً الدور الروسي في إضعاف التأثيرات الإيرانية في جنوب سورية، وإبعاد ميليشياتها، التي تعرضت لحرب استنزاف شنتها عليها إسرائيل.
غير أن إضعاف النفوذ الإيراني باتت له معطيات صلبة على الأرض، بعد ما يمكن تسميته ب”صحوّة الشعوب العربية” وخاصة في البيئات الشيعية في العراق ولبنان، بعد انكشاف الأهداف البعيدة لإيران في الصعود على دماء أبناء” الخايبات” على ما يقول العراقيون، والقصد على جثث أبناء فقراءهم، وكانت نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة خير مؤشر على تراجع تأثير إيران، وفي لبنان بات حزب الله، الذي تعرض لعدة ضربات داخلية، في خلدة و الطيونة غير قادر على الدفاع عن نفسه في ظل ضعف التأييد له من بيئته، واستعداد المكونات الأخرى على مواجهته والخروج من حالة الرعب التي طالما أراد الحزب وضعهم بها إلى الأبد.
ينطوي الرهان الأكبر على تحجيم النفوذ الإيراني على زيادة حجم الكتل الرافضة للسياسات الإيرانية بين شيعة المنطقة وتحدي أدواتها وعزلهم، وهذا يستدعي احتواء هذه الكتل سواء من قبل مكونات المنطقة، أو من قبل الدول المهتمة بشؤون المنطقة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.