يأتي تراجع إيران عن استثمارها الاقتصادي الهائل في سوريا في السنوات الأخيرة، على وقع العقوبات والضغوط الأمريكية ضد طهران، فضلا عن جائحة كورونا التي سببت مشكلة داخلية جديدة وجدية لبلاد تكتنفها الأزمات، وأهمها أزمة الملف النووي.

ولكن وعلى نحو مواز، تعمد طهران في سوريا، إلى تطبيق كل ما من شأنه إبقاء حكومة دمشق تحت “رحمة” الحماية الإيرانية العسكرية، فضلا عن الهيمنة الاقتصادية التي تمثلها قروض لتمويل المستوردات، تسد بالكاد حاجة سوريا، وتضمن استمرار وضع العوز.

ويدرك النظامين الحاكمين في دمشق وطهران، أن أي طرف منهما لا يمكن أن يشكل للآخر منقذاً ولا قوة دافعة اقتصادياً. باستثناء ما يخص المشتقات النفطية. ومن هنا عاد الأسد لمحاولة مد جسور التعاون الاقتصادي مع دول الخليج العربي. مستغلا قلق الأخيرة من أن تغدو طهران الآمر الناهي فعليا في شأن سوريا.

ويرى خبراء ومراقبون أن وضع إيران الداخلي والعقوبات الدولية عليها، يحولان دون أن تساهم في “إعمار سوريا”. ويستدل هؤلاء بالموازنة العامة في إيران والتي وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ عقود. على خلفية تراجع صادرات النفط إلى 20 مليار دولار أميركي. وهو ما أجبر طهران على استخدام قسم كبير من احتياطاتها المتبقية من العملات الأجنبية.

وعلى الطرف المقابل، ارتفعت فاتورة الإنفاق الإيراني، في كل سوريا واليمن، لتناهز 16 مليار دولار.

نحو مزيد من إضعاف دمشق؟

وفي هذا الصدد، يؤكد الكاتب الاقتصادي مصطفى السيد، أن إيران ساهمت بشكل مباشر في عمليات التطهير العرقي والطائفي التي جرت في 10 محافظات سورية. على أساس أن ذلك لطهران مشروعها الكبير بالتغلغل في شواطئ المتوسط الشرقية.

ويستطرد السيد في حديثه لـ”الحل نت” معتبرا أن “الحديث عن مطالب إسرائيلية لسحب القوات الإيرانية إلى الشمال من حدود فلسطين المحتلة بتسعين كيلو مترا، هو مجرد حركة تضليل استراتيجية”.

مضيفا: “جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين مصرون على عدم وقف نزيف الدم السوري. ولذلك كله ستحاول إيران و روسيا الإبقاء على الوضع الراهن وتثبيته عبر الاستثمار بآلة الزمن. وهذا ما يناسب لصوص سورية الذين يعتقدون أن كل لحظة من بقائهم هي فرصة إضافية لمواصلة نهب الشعب”.

للقراءة أو الاستماع: هيمنة إيرانية واسعة على الاقتصاد السوري.. ما الخطوة التالية؟

وأشار السيد إلى إن إيران تفننت في “تقديم وعود كبيرة وخطابات نوايا اقتصادية، لم تجد لها مرتسما حقيقيا في الاقتصاد السوري، فقد بقيت العلاقة الاقتصادية الإيرانية تتجه نحو مزيد من إضعاف النظام ليبقى بحاجة الى الحماية الإيرانية العسكرية على الأرض، واستمرار قروض تمويل المستوردات لإبقاء منظومة الحكم في وضع الإنعاش بحيث يحتاج الإيراني على الأرض، والروسي من السماء لمواجهة الشعب السوري المطالب بالحرية والعدالة وبصندوق انتخابات شفاف”.

وختم السيد كلامه بالقول: “تعددت مظاهر العلاقة السورية -الإيرانية منذ الربع الأخير للقرن الماضي إلى اليوم الحاضر وفقا للظروف التاريخية التي عصفت بالبلدين منذ ذلك التاريخ، يوم زار حافظ الأسد طهران أواخر أيام حكم الشاه وأرسى أسس علاقة سياسية سورية- إيرانية، لكن العلاقات الاقتصادية بقيت في الحدود الدنيا نتيجة تشابه الإنتاج في الاقتصادين”.

أطماع إيران في إعادة إعمار سوريا

تدرك إيران هشاشة الوضع الاقتصادي السوري. سواء لجهة عجز الموازنة العامة، أو لجهة تراجع معدل النمو المؤشرات الاقتصادية على جميع الصعد. إلا أن طهران لم تتوان عن مساعدة دمشق في فتح خط ائتمان نفطي لمساعدته على استيراد حاجته من الوقود بأنواعه. وبعد اشتداد العقوبات والضائقة المالية التي تعرضت لها طهران تم إغلاق الخط. ولم تعد إيران تهتم بالسوق السورية، إلا كسوق لتصريف المنتجات الرديئة، ومنصة لتصدير سلعها نحو أوروبا مستقبلا.

وهنا يرى الخبير الاقتصادي عبد الرحمن أنيس، أن مسعى إيران للسيطرة على شواطئ المتوسط يتوقف على تأمين السيولة النقدية وضمان المناخ السياسي اللازم، الذي يكفل لطهران تشغيل “استثماراتها” وتصريف منتجاتها، وهما (السيولة والمناخ السياسي الملائم) شرطان يصعب تحقيقهما في ظل العقوبات المفروضة على كل من دمشق وطهران، سواء من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، ومن البديهي أن لا جدوى من الحديث عن مناخ استثماري، بينما شعب البلد في الخيام يعاني الفقر والجوع والعوز، وشحا في البضائع والمحروقات ومصادر الطاقة.

وعبر أنيس، خلال حديثه لـ”الحل نت” عن اعتقاده بأن الإيرانيين يطمعون في الاستفادة من أي أموال ستتدفق لإعادة إعمار سوريا، أكثر من طمعهم باستثمارات يرونها غير مجدية. لاسيما أن حجم الأموال الموعودة سيكون كبيرا من وجهة نظر طهران.

إيران وإضعاف الاقتصاد في سوريا

يؤكد مراقبون أن إيران تسعى لمزيد من إضعاف الاقتصاد السوري، وتعميق سيطرتها على مفاصل كل القطاعات الصناعية والسياحية والعقارية. فرغم إبرام اتفاقية التجارة الحرة بين سوريا وإيران منذ 2012، ورغم وجود منطقتين حرتين في حسياء وفي اللاذقية. ورغم العديد من المشروعات “الاستثمارية” الأخرى، فإننا لم نرى تأثير تلك الأموال في دورة الاقتصاد الكلي لسوريا.

للقراءة أو الاستماع: الضغوط الدولية تُضعِف الحضور الاقتصادي الإيراني في سوريا

وهذا ما ينبه له الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن أنيس، قائلا: “منذ بداية تدخل إيران العسكري والأمني في سوريا، تم توقيع اتفاقات وإبرام صفقات استثمارية ضخمة. تظهر إيران وكأنها تملك من الأموال ما يفيض عن حاجات شعبها لتضخه خارج حدودها”.

ويتابع “لم نلمس آثار تلك الاستثمارات الإيرانية، فهي لم ترفد الاقتصاد السوري المتهالك بعد افتتاح خط ائتماني بقيمة 3 مليارات دولار، لتمويل مشتريات سوريا من النفط والغاز عام 2013، وفتح خط آخر عام 2015 بقيمة مليار دولار لاستيراد البضائع والسلع”.

ويؤكد أنيس، أن العقوبات أوقفت تلك الخطوط الائتمانية وحدت من التدفقات المالية وقيدت حركة الأموال والبضائع. متسائلا “كيف لنا أن نتحدث بعد هذا عن استثمارات”.

الانسحاب العسكري

مع حلول العام 2012، حاولت دمشق -وبسبب تعرضها للعقوبات الأوروبية والعربية- فتح أسواق جديدة للبضائع السورية، في الدول “الصديقة” وأولها إيران. لكن التجار والصناعيين السوريين فشلوا في اختراق السوق الإيرانية. نظرا لوجود منتجات إيرانية محلية تغطي تلك السوق، لاسيما في قطاعي الغذاء والنسيج.

ومن هنا لم يكن غريبا أن نشهد انخفاض حجم التبادل التجاري بين إيران وسوريا، من 550 مليون دولار عام 2010 إلى 170 مليون دولار عام 2019.

للقراءة أو الاستماع: عقود إيرانية كبيرة في الاقتصاد السوري.. هل أحكمت طهران قبضتها؟

ومع ذلك يبقى حضور إيران في سوريا قائماً في المجال الاقتصادي، تشد من أزره اتفاقات رسمية وقعها نظام الأسد مع طهران ومنحها بموجبها امتيازات كثيرة، ربما لم تكن لتصل إليها لولا تدخلها العسكري.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن لأي حديث عن انسحاب عسكري إيراني محتمل من سوريا أن يعني رحيل إيران عن سوريا اقتصاديا. لاسيما أن طهران تتطلع إلى اليوم الموعود الذي تتدفق فيه أموال غزيرة إلى سوريا لتغطية عملية إعادة إعمار مكلفة للغاية. وهذا ما سيقاتل لأجله الإيرانيون طويلاً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.