هل تثمر سياسة الانفتاح الأميركي الحذر على نظام الأسد؟

هل تثمر سياسة الانفتاح الأميركي الحذر على نظام الأسد؟

 أدخلت الولايات المتحدة تعديلات على العقوبات التي تفرضها على النظام السوري بما يتيح للمنظمات غير الحكومية التعامل مع الجهات الحكومية السورية، ووسعت نطاق عمل هذه المنظمات بهدف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية للشعب السوري، وفق ما جاء في القرار الأميركي.

وكانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قد فرضت في يونيو حزيران العام الماضي عقوبات شاملة تستهدف رئيس النظام بشار الأسد والدائرة المحيطة به لخنق إيرادات حكومته في محاولة لإجبارها على العودة للمفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة.

ورغم أن البعض يعتقد أن تعديل العقوبات لا يعتبر خطوة باتجاه التعامل السياسي من قبل واشنطن مع النظام، بل مجرد الوصول إلى تطبيق أفضل للعقوبات وتخفيف الأزمة الإنسانية في سوريا، لكن في الواقع انه منذ وصول إدارة الرئيس جو بايدن إلى السلطة قبل نحو عام، ظلت سياستها حذرة على نحو واضح تجاه سوريا، حيث لم يعين بايدن مبعوثاً أميركياً لسوريا، ولم يفرض عقوبات على النظام السوري باستثناء عقوبات محدودة على ثمانية سجون سورية، ما أثار تساؤلات حول حقيقة موقف الإدارة مما يجري في سوريا، وهل يعكس سياسة واعية ومخطط لها، أم مجرد إهمال لهذا الملف، وعدم اعتباره ذو أولوية، وتركه تاليا بأيدي الموظفين الصغار أو الميدانيين ليتصرفوا بناء على مقتضى الحال.

والرأي السائد هو أن إدارة بايدن لم تتوصل حتى الآن إلى سياسة محددة حيال سوريا، بالرغم من بعض التصريحات التي أدلى بها بعض مسئولي الإدارة وعلى رأسهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن بأن واشنطن ستقود جهدا دوليا لحماية المدنيين والتوصل لحل سياسي حقيقي للصراع الدموي في سوريا. والجهد الرئيسي الملحوظ للإدارة والذي قاده الرئيس بنفسه، استهدف الضغط على روسيا لتمديد القرار ألأممي بالإبقاء على المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى لستة أشهر، تمدد تلقائيا لفترة مماثلة، أي حتى يوليو تموز المقبل.  

والواقع أن هذا “الإنجاز” الأميركي اليتيم المتمثل في التمديد لآلية إدخال المساعدة لفترة محدودة، لم يمر دون مقابل كما تشير كثير من المعطيات، حيث تمسكت روسيا بالحصول على تنازلات من إدارة بايدن تتعلق بعدم فرض عقوبات جديدة على نظام الأسد، وعدم التشدد في تطبيق العقوبات المفروضة في عهد الإدارة السابقة بموجب قانون “قيصر”، وهو ما تجاوبت معه واشنطن إلى حد ما حتى الآن، فضلا عن غض النظر الأميركي الضمني عن خطوات التطبيع العربي مع النظام، برغم من صدور تصريحات من هذا المسؤول أو ذاك بشأن تمسك واشنطن بمعارضة التطبيع، وربط ذلك بحصول تقدم في المسار السياسي.

 وهذه المقاربة التي تمت بين واشنطن وموسكو والمتمثلة في تسهيل وصول المساعدات مقابل التساهل في فرض العقوبات، وفق سياسة خطوة مقابل خطوة، تم التوافق عليها وفق ما تشير بعض المصادر الإعلامية خلال القمة التي جمعت بايدن مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين منتصف العام الحالي، والتي استتبعت ب “اللاورقة” بشأن الملف السوري التي قدمها العاهل الأردني للجانب الأميركي خلال زيارته لواشنطن، والتي استندت إلى الملف الإنساني لفتح خطوط مع النظام في دمشق، وهو ما يمكن اعتباره نجاحا حققه الروس بالتنسيق مع الأردن وأطراف أخرى مثل الإمارات، لجعل الملف الإنساني ورقة سياسية تفاوضية. وفضلا عن ذلك، من المعتقد أن التفاهمات شملت أيضا الحفاظ على “التهدئة” في الشمال السوري، بحيث تمتنع روسيا والنظام عن القيام بعملية عسكرية واسعة في إدلب ومحيطها حيث يعيش نحو 4 ملايين شخص، الأمر الذي سوف يتسبب في تأزيم الوضع الإنساني عبر موجات جديدة من اللاجئين، إضافة إلى زيادة تعنت النظام سياسيا في حال سيطرته على تلك المناطق، حيث سيشعر بحاجة أقل للتفاوض السياسي.

 ويمكن القول بالتالي، ان الأميركيين الذين يريدون بذل أقل جهد ممكن في الملف السوري حيث أولوياتهم الخارجية تتصل بالمواجهة مع الصين وروسيا في أماكن وقضايا أخرى، استراحوا للوهم الذي تبثه روسيا بأن هناك فرصة لمزيد من التفاهمات الدولية بهدف التوصل إلى حل سياسي في سوريا، برغم إدراك العارفين ببواطن الأمور في واشنطن أن هدف روسيا الحقيقي إنما يتمثل في إعادة تعويم نظام الأسد إقليميا ودوليا بأقل قدر من التغيير في سلوكه، بهدف الحصول على الشرعية وأموال إعادة الأعمار.

وتدرك روسيا أن هناك في واشنطن من يطرب لهذا النغم الخلبي الذي تعزفه، ممن لا يعنيهم كثيرا من يحكم ويسيطر في هذه البقعة الصغيرة المسماة سوريا سواء كان الأسد وروسيا أم غيرهم، وكل ما يعنيهم التأكد من بعض الأمور مثل عدم وجود خطر كبير من تنظيم داعش أو غيره من التنظيمات المتطرفة، وعدم وجود ما يهدد أمن حليفتهم إسرائيل، وما تبقى أمور ثانوية يتكفل الزمن بحلها، أو كما يقول المثل العامي “فخار يكسر بعضو”.

وطبعا، لا يخفى أن الأولوية الرئيسة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتمثل اليوم في التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن العودة إلى الاتفاق النووي والتفاهم على رفع العقوبات التي فرضها ترامب. وفي إطار هذا التجاذب، قد تكون سوريا ساحة لتبادل الرسائل بين بعض الأطراف المعنية بهذه المفاوضات وفي مقدمتها إسرائيل التي يعتقد أنها حصلت على ضوء أخضر أميركي لتصعيد هجماتها في سوريا ضد أهداف إيرانية، مقابل امتناعها عن مهاجمة أهداف ذات صلة بالبرنامج النووي الإيراني داخل إيران نفسها، لأن من شأن ذلك تعقيد المفاوضات مع إيران، وربما إفشالها.

وتبقى أمام واشنطن المعضلة “الأخلاقية” المتمثلة في عدم التخلي عن الحلفاء الكورد الذين كانوا الشركاء الرئيسيين لها خلال السنوات الماضية في محاربة تنظيم داعش. وبعد مخاضات عدة بعد إعلان ترامب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، ثم تراجعه عن ذلك تحت ضغط قادته العسكريين وبعض الحلفاء الإقليميين، استقر الرأي الأميركي الآن على الإبقاء على العدد الرمزي الموجود حاليا لأمد غير محدد، يربط تارة بالقضاء على خطر داعش وتارة بتحقيق الاستقرار والسلام في سوريا، دون أن تتخذ واشنطن سياسة معلنة هدفها تغيير النظام في سوريا. ومنذ الإعلانات الأولى لنيات واشنطن سحب أو تقليص قواتها في سوريا، ثارت مخاوف لدى الإدارة الذاتية في شرق سوريا من ترك المنطقة لقمة سائغة أمام تركيا أو الميليشيات الإيرانية المنتشرة على حدودها، فسارعت إلى البحث عن صفقات مع النظام برعاية روسية طلبا للحماية، وهذا توجه يلاقى تشجيعا أو على الأقل عدم اعتراض من الولايات المتحدة التي تريد أن يتولى غيرها توفير الحماية لمناطق الإدارة الذاتية تمهيدا لسحب قواتها مستقبلا دون ان تتهم بالتخلي عن الحلفاء الأكراد، حيث الرسالة الهامسة التي تسمع في واشنطن بأنه لا يجب توقع بقاء القوات الأميركية في تلك المناطق إلى الأبد، بالرغم من تكرار التصريحات العلنية من جانب المسئولين الأميركيين بشأن التزامهم القوي تجاه الكورد. 

كما تشجع واشنطن الإدارة الذاتية و”قسد” على إبعاد نفوذ حزب العمال الكردستاني عن مناطقهم لتهدئة مخاوف تركيا، وعدم إعطائها ذريعة لمهاجمة مناطقهم.

 وبالفعل شهدت الآونة الأخيرة عقد جولات تفاوض بين ممثلي الكورد وحكومة دمشق، ومن المتوقع أن ينشط هذا الحوار في الفترة المقبلة خاصة بعد زيارة وفد من “مجلس سوريا الديمقراطية” برئاسة إلهام أحمد واشنطن وموسكو، وهو حوار يجري بغطاء أميركي ورعاية روسية، ويبحث في ملفات مثل مستقبل قوات “قسد” و”الإدارة الذاتية”، فضلا عن قضايا أخرى مثل المساعدات والخدمات، والانتشار العسكري لردع أي توغل تركي جديد.

 والخلاصة أن المقاربة الأميركية الجديدة حيال سوريا التي يفترض أنها قيد التبلور الآن، مرتبطة إلى حد بعيد بالتفاهمات الأميركية – الروسية من جهة، والتفاهمات الأميركية – الروسية –التركية، من جهة أخرى، وهي تفاهمات قد تثمر بين الحين والآخر، عن مبادرات من هذا الجانب أو ذاك، مثل الخطوة الأميركية المتعلقة بتوسيع هامش تحرك المنظمات غير الحكومية في سوريا، كتعبير عن حسن النية أو كمبادرات متبادلة في إطار سياسة الخطوة مقابل خطوة، وهو طريق يتشارك المسير فيه أطراف عدة محلية وعربية وإقليمية ودولية، مصالحها متوافقة حينا ومتعارضة أحيانا، وهو ما يجعل الوصول إلى المحطة النهائية محفوفا بالمخاطر، وقد يستغرق وقتا أطول من المتوقع.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.