كيف تستغل الصين النفوذ الاقتصادي للهيمنة السياسية؟

كيف تستغل الصين النفوذ الاقتصادي للهيمنة السياسية؟


ما تزال الصين على رأس قائمة الدول التي تثير الاهتمام بمعدلات النمو الاقتصادي السنوي التي تجاوزت 10 بالمئة خلال أعوام عدة ومتلاحقة، ومما رسخ هذا النمو اعتماد معظم دول العالم على الصين لتزويدها بالسلع الاستهلاكية الرخيصة، ما أتاح الفرصة لتثبيت الأجور في دول مختلفة، مقابل تعظيم أرباح شركات التوزيع والتسويق، التي تتاجر تحت أسماء تجارية حصرية وبرّاقة.

ولعل هذا المنحى هو ما دفع الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان للقول في إحدى مقالاته: “لا أزال متمسكاً بقناعتي الراسخة، وإن لم يفرغ المؤرخون من تسجيل أحداث هذه الحقبة العصيبة من تاريخنا المعاصر، بأن الحدث الأهم والحاسم فيها، لن يكون هجمات 11 سبتمبر، ولا غزونا لكل من العراق وأفغانستان، وإنما بروز العملاقين الآسيويين؛ الصين والهند، لذلك فإن الاتجاه الواجب علينا مراقبته ورصده عن كثب، هو مدى قدرة بقية دول العالم على التكيف مع بروز هاتين القوتين”.

ومن هنا يقترح “فريدمان” على “الكونغرس” الأمريكي “أن يتجه إلى تبني سياسات اقتصادية أكثر ميلاً لحماية اقتصادنا القومي، بما في ذلك تقليص نطاق التجارة الحرة، واتخاذ سياسات اقتصادية ذات طابع عقابي إزاء الصين.

مخاوف “فريدمان” هذه عبر عنها عام 2007، مستدلا يومها بالفائض الكبير الذي سجله ميزان الصين التجاري خلال شهر أكتوبر 2006، أما الفائض التجاري الصيني خلال أكتوبر 2021، فقد حقق مستوى قياسيا شهريا، بعدما قفزت الصادرات بمقدار 27.1 بالمئة على أساس القيمة الدولارية، لتسجل 300.2 مليار دولار، فيما ارتفعت الواردات بنسبة 20.6 بالمئة، ما يعني فائضا شهريا يناهز 85 مليار دولار.

الفساد حاضنة استثمارات بلاد التنين

ولكن الفائض ليس سوى الوجه المضيء لاقتصاد يغرق في ظلمات الفساد، بحسب رؤية الباحث والخبير الاقتصادي د.حسين العماش، الذي اقترح أن يقتصر التعامل مع الصين على التبادل التجاري (استيرادا وتصديرا) من ميناء إلى ميناء فقط، وأن لا يمتد لمنح هذا البلد مساحات خارج حدوده ليستثمر فيها.

وفي حديثه لـ”الحل نت” اعتبر العماش أن من الأولى حصر الصين داخل “سورها الحجري والثقافي العظيم، الى أن تخرج من شرنقة الجشع”، معقبا: أما العلاقات الاقتصادية والاستثمارية والتعاون فهي في قناعتي كذبة سمجة وستكون وبالا لصالح الصين فقط في النتيجة، حتى ولو بدت في الظاهر أنها منافع مشتركة للطرفين”.

ووفق ما أورد تقرير لموقع “الجزيرة نت” فإن الصين تتحرك بثبات لتصبح الإمبراطورية الأكبر في العالم ولتنافس بذلك الولايات المتحدة من أجل سعيها لبناء نظام عالمي جديد، وذلك من خلال العمل على مبادرة اقتصادية ضخمة اسمتها “الحزام والطريق” على التمدد الاقتصادي عالمياً.

ورغم تفاوت المعدلات، فإن أكثر من ثلاثمئة مليار دولار قد أُنفقت على هذا المشروع، وتخطط الصين ﻹنفاق تريليون إضافية خلال السنوات العشر القادمة.

كثيرة هي الدول التي أبدت نظرة إيجابية تجاه الأموال الصينية، واعتقدت أنها قروض شبه مجانية، لكن هذه القروض كانت مكلفة جدا اقتصاديا وقد تعمل على تكبيل هذه الدول لارتباطها بالاقتصاد الصيني وبالتالي رهن مستقبلها للشركات الصينية.

فيما أفاد العماش أن جنوح الدول الأفريقية وبعض الدول الآسيوية التي تعاملت مع الصين كان بمثابة هروب من “الأوروبيين ومؤسساتهم التنموية المزعومة”، وقد استغلت الصين هذه الحالة ورمت الطعم السهل لتلك الدول، ثم ما لبثت بلاد التنين أن ابتلعت مرافق الدول التي استنجدت بها، ولم تنشر او توفر أي شروط للتنمية.

لا بل إن الصين، وفق العماش، استعانت بفساد الأنظمة القمعية التي تفضلها بكين، حيث من النادر أن تجد لنفسها (أي الصين) موطئا خارجيا استثماريا -بعيدا عن التبادل التجاري- في أي بلد ديمقراطي أو فيه بعض أنواع المحاسبة، لأن الصين تنتعش في الدول الدكتاتورية فقط حيث الفساد هو الحاضنة لاستثماراتها. ويسخر العماش من المقولة التي تتردد كثيرا من أن “الزمن الصيني قادم”، واصفا هذه المقولة بأنها “كلام فارغ”. بل إن العماش يذهب أبعد، ناعتاً الصين بأنها “شر اقتصادي وثقافي خطير ويجب الابتعاد عنه”.

الصين تتحكم بموارد الدول المتلقية

على هامش قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي عام 2019، أشار موقع “الجزيرة نت” إلى بكين أعلنت “منح” السودان 90 مليون دولار في صورة هبات وقروض لدعم مشروعات التنمية. أما في الجزائر فإن الاستثمارات الصينية في قطاع البناء وحده تقدر بنحو 1.2 مليار دولار، فضلا عن استثمارات في قطاع الزراعة تناهز 500 مليون دولار، وأخرى في قطاع الخدمات.

ولم تكن مصر بعيدة عن المد الصيني، إذ وقعت القاهرة وبكين صفقات بقيمة 18 مليار دولار في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. وفي جيبوتي التي من المتوقع أن تبلغ قيمة ديونها 88 بالمئة من جملة ناتجها المحلي (الذي يقدر بـ 1.72 مليار دولار)، فإن هذه البلاد الفقيرة تواجه احتمال ابتلاع “التنين الصيني” لها، خصوصا وأن بكين تستحوذ على النسبة الأكبر من ديون جيبوتي.

وعند هذه النقطة يقول العماش إنه لم يرى في حياته أي تحليل اقتصادي جدي يعطي أي إيجابيات للاستثمارات الصينية الضخمة خارج الصين، بخاصة في أفريقيا، وفي بعض الدول الإسلامية، بل على العكس فالدول التي فتحت أبوابها للاستثمارات والمساعدات الصينية ساءت أحوالها الاقتصادية، والمنافع الفعلية تذهب إلى الصين، وتنتهي العلاقة تلك بتحكم الصين بموارد الدول المتلقية.

موقع سريلانكا الإستراتيجي على خط الملاحة الأكثر ازدحاما بين شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا جعلها مطمعا كبيرا للصين التي أغدقت على هذه الدولة الصغيرة حوالي ثمانية مليارات دولار بفائدة قدرها 6.3 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالبنك الدولي الذي تتراوح فوائده بين 0.25 بالمئة و3 بالمئة. نتيجة لذلك حصلت الصين على 85 بالمئة من حصة مرفأ “هامبانتونتا” الإستراتيجي بعقد مدته 99 سنة، بالإضافة لحوالي 15 ألف فدان قريبة من الميناء كمنطقة صناعية.

كينيا هي الأخرى اضطرت لرهن أكبر وأهم مرفأ بها “ميناء مومباسا” للحكومة الصينية، وذلك بسبب قروضها المتراكمة، حيث بلغ حجم الديون أكثر من 5.5 مليارات دولار، مما يضع كينيا ضمن الدول الأكثر عرضة لفقدان الأصول الإستراتيجية لصالح بكين.

ويعتقد العماش بأن الصين سواء كانت “بشكلها الشيوعي الأحمر المتوحش، أو بشكلها الرأسمالي الملوث والجشع، لم ولن تكون قادرة على تقديم أي اسهام حضاري للبشرية”.

ويعقب: “حتى مظاهر القوة الاقتصادية الصينية التي يروج لها في الإعلام هي برأيي قوة اقتصادية كرتونية، كونها مرشحة للانهيار في أي لحظة لأنها قائمة على التناقض داخل المجتمع الصيني الضخم والمتنوع حتى التنافر”. ويحاول دعم رأيه أكثر، قائلا إن “قوة الصين الظاهرة حاليا هي نتيجة 3 عوامل رديئة جدا، الأول، هو السيطرة الشيوعية الشديدة المتوحشة على كتلة بشرية هائلة تسيرها النخبة الحاكمة كما تشاء”.

والثاني، أن التقدم الصناعي الصيني قد بني على سرقة أفكار الغرب، وبصورة غير مباشرة، بتشجيع من دول الغرب نفسها استغلالا لليد العاملة الصينية شبه المجانية. “إلى الآن لا نعرف فعلا من استغل من؛ هل الغرب استغل الصين لينتج بضائع رخيصة، أم إن الصين استغلت الغرب لتسرق تقنياته وتطور نموذجها؟ لا نعرف فعلا، لأنها حالة غريبة”. والعامل الثالث، يجسده وفق رأي العماش؛ اتصاف الصين بالعنصرية الشديدة والانغلاق، وما تمارسه من قمع للأقلية المسلمة من الأيغور، وسرقة خيراتها، وهي بذلك تقدم نموذجا رديئا عما ستحصل عليه الدول المتعاملة مع بكين. ونظرا لأن الصين ما تزال تحت رحمة الغرب، اقتصاديا على الأقل، فهي تمارس التقية ونعومة الملمس الذي يخفي السم تحته، بحسب وصفه.

75 بالمئة من الدين العالمي لصالح الصين

بلغت حجم الديون التي قامت الصين بإقراضها من خلال الحكومة والشركات التابعة لها نحو 1.5 تريليون دولار أمريكي على شكل قروض مباشرة وائتمانات تجارية لأكثر من 150 دولة حول العالم. وهذا الرقم –على أهميته- لا يشمل تريليون دولار قامت الصين بدفعها ثمنا للسندات الأمريكية.

وتشير الدراسات إلى أن هذا الحجم من الديون، حوّل الصين إلى أكبر دائن رسمي في العالم، لتتجاوز بذلك المقرضين الرسميين التقليديين مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، بل وحتى جميع الحكومات الدائنة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مجتمعة.

ويتم الإقراض الصيني برعاية حكومية، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة رصد البيانات، كما أن الصين ليست عضوا في نادي باريس (مجموعة غير رسمية من الدول الدائنة) أو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث لا يمكن جمع بيانات حول الإقراض من قبل الدائنين الرسميين.

ومن أهم الدول التي تدين بقروض تصل إلى نسبة كبيرة من إجمالي الناتج المحلي: جيبوتي وتونغا وجزر المالديف والكونغو وقيرغيزستان وكمبوديا والنيجر ولاوس وزامبيا وساموا وفانواتو ومنغوليا. ومن المرجح أن تواصل الصين هيمنتها على سوق الديون العالمية، حيث ستمثل الصين 75 بالمئة من الارتفاع المتوقع في الدين العالمي حتى عام 2025.

ويذكّر العماش أنه وعلى مدى الأعوام السبعين الأخيرة من عمر الصين الحالية، فإن هذه البلاد –على ضخامتها- لم تقدم على اتخاذ أي مواقف حضارية ذات معنى يساعد في التنمية ورفع الظلم عن العالم، حتى عمن تعدهم أصدقائها. فهي كانت ولا زالت تنظر إلى هؤلاء بوصفهم مجرد مستهلكين لبضائعها الرديئة.

ويحذر العماش من التعاون أو التحالف مع الصين السياسية الحالية، فهي “أكبر خطر جديد على الدول الاسلامية أكثر من غيرها، وهي خطر على شعوبها قبل غيرهم”. ويختم العماش حديثه داعيا لعدم الاغترار بمسميات براقة تطلقها الصين من قبيل “طريق الحرير” وغير ذلك من مسميات، ليست في رأيه سوى استرجاع لثقافة غزوات جنكيز خان الهمجية، والتي ترسخت في الصين أكثر من غيرها بحكم وقوعها تحت سطوة المغول قرونا عديدة، محذرا من أن نجاح التنين الصيني البشري في مساعيه، سيجعله قادرا على ابتلاع معظم الدول الصغيرة الواقعة بين الصين وأوروبا.

أخيراً

فرغم حالة الشلل التي مني بها العالم جراء تفشي كورونا، فإن اقتصاد الصين (وهو الثاني على مستوى العالم)، شهد انتعاشا قويا السنة الماضية، لاسيما في الربع الأخير من 2020، إذ بلغ معدل النمو الاقتصادي الصيني 6.5 بالمئة على أساس سنوي، كما نما الناتج المحلي الإجمالي 2.3 بالمئة خلال 2020، ليصبح الاقتصاد الصيني الاقتصاد الرئيس الوحيد في العالم الذي لم ينكمش خلال هذه الفترة.

هذا النمو فاق المعدل الذي تكهنت به العديد من المؤسسات، ومنها صندوق النقد الدولي الذي توقع أن تحقق الصين نموا بنسبة 1.9 بالمئة فقط خلال العام الماضي، ولكن الصين خالفت التوقعات وحصدت نموا مقبولا، لتصل بقيمة ناتجها المحلي الإجمالي إلى عتبة 15.42 تريليون دولار أميركي، خلال العام الفائت.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.