لا يمكن الحديث عن نهج اقتصادي سوري واضح محدد الملامح خلال خمسة عقود مضت، لأن حكومة دمشق خلال هذه العقود كان يتمسك بحالة “اللانهج”، فهي تارة تغازل القطاع الخاص بتقديم جرعة تسهيلات محددة، وتارة أخرى عيد إحياء شعارات الدور المركزي للدولة في الحياة الاقتصادية، والتي أرادت من خلالها، التحكم بدفة الاقتصاد، والاستحواذ عليه، وعدم السماح لقوى اقتصادية ما من ممارسة دور يزيد عن الحجم الذي وضعته لهذه القوى، بما يسمح لها دوام السيطرة بقبضة من حديد على الاقتصاد الذي سخرت كل إمكاناتها من أجل أهداف سياسية.

وكان الشعار الحكومي المرفوع دائما عند التحول إلى “اقتصاد السوق” منذ عهد عبد الله الدردري عام 2007 وحتى حكومة وائل الحلقي 2014، “إيصال الدعم إلى مستحقيه”، لتبرير سياسية “تخصيص الدعم فقط”، مع العلم إن بند الدعم الحكومي في الموازنة العامة للدولة صار ينخفض في كل سنة عن السنة التي سبقتها.

هبط الدعم الاجتماعي في الموازنات العامة على مراحل من مبلغ 350 مليار ليرة (نحو 7.7 مليار دولار أمريكي) عام 2009، إلى ما يقارب 550 مليار ليرة (2.2 مليار دولار) في موازنة 2022.

أما حجم الموازنة عام 2010 فقد بلغ 16 مليار دولار، مقارنة بحجمها عام 2022 الذي لم يتجاوز 3.7 مليار دولار، لتمثل الميزانية الحالية ربع موازنة 2010.

أما المبلغ المخصص للدعم في 2022 فهو 550 مليار ليرة، وهو أيضا ربع المبلغ المخصص للدعم عام 2010، وهذا يعني أن معدل الإنفاق الحكومي كان عام 2010 مرتفعا أضعاف ما هو عليه اليوم، ولعل تقلص الإيرادات سبب رئيس في تقليص الدعم، ولكن هذه ليست كل القصة بالنسبة لحكومة دمشق.

إن السياسة الاقتصادية الراهنة لحكومة دمشق تكشف سعيها لتكريس الجانب المتوحش من الاقتصاد الرأسمالي، بما فيه التخلي التام عن دعم السلع الغذائية الأساسية، وتركيز جهودها على زيادة وارداتها وعمولاتها من التجار المستوردين للمواد الغذائية الأساسية، مترافقا مع عدم اكتراث ولا مبالاة بصاعقة الوضع المعيشي للناس القاطنين في مناطق سيطرته.

دعم وهمي؟

ولأن الدعم ليس في النهاية مجرد أرقام تدرج في الموازنات المتعاقبة، بل هو نتائج ملموسة على أرض الواقع، فإن الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية، ثامر قرقوط، يرى أن الأسد تمسك بمبدأ الدعم رغم كل النتائج الكارثية لسياسات الحكومات المتعاقبة، وكان هذا التمسك في سبيل إحكام سيطرته على الناس ومقدرات الاقتصاد، ورغم توجيه الدعم إلى الخبز والمواد التموينية والمحروقات والكهرباء والصحة والتعليم، فإن كان دعما وهميا.

قرقوط يشير في حديثه لـ “الحل نت” إلى أن الدعم أتى على حساب الرواتب والأجور من جهة، وعلى حساب جودة المخرجات من جهة ثانية، ولأن الدعم المقصود كان يسد جزءا من الفجوة المتسعة بين الاحتياجات المعيشية الرئيسية المرتفعة الكلف، والرواتب والأجور المنخفضة، فإنه لم يكن دعما حقيقيا، إنما مجرد إجراء إداري فاشل، نخره الفساد، وأساء إلى الاقتصاد السوري، وساهم –مع عوامل أخرى- في تخلفه.

ويتابع: “يخطئ من يظن أن سوريا اعتمدت منذ سبعينيات القرن الماضي أي نوع من التخطيط الحقيقي، بل إن الخطط الخمسية التي أقرت كانت بلا جوهر، وبلا ملامح، وافتقدت إلى البرامج التي تفضي إلى التنمية المنشودة. يمكن القول إن أول من وضع وثائق للتخطيط الحقيقي في سوريا كان آخر وزير للتخطيط في البلاد الدكتور عصام الزعيم، الذي وضع “الخمسية التاسعة” 2000- 2005″.

انقسام طبقي

ويستعرض قرقوط في حديثه كيف هيأت حكومة دمشق عبر حكومتي محمد مصطفى ميرو، ولاحقا حكومة محمد ناجي عطري (بين أيلول/سبتمبر 2003 ونيسان/أبريل 2011). كيف هيأ الأرضية لإعلان تخليه عن الدعم، وكيف قدمت تلك الحكومات بيانات وأرقام عن الكوارث التي جرها الدعم على الاقتصاد، وعن فاتورته الباهظة، وكيف وعدت بأن الوضع الاقتصادي سيتحسن عندما يتم التخلي عن تلك السياسات الاقتصادية”.

ويتذكر قرقوط: “لذلك كان من السهل جدا على حكومة محمد ناجي عطري رفع أسعار المحروقات في 2008، مقابل تعويضات هزيلة، حيث أعاد الاقتصاد السوري تنظيم نفسه بنفسه، وبدأ يتشكل نهج اقتصادي حر أقرب إلى اقتصاد السوق الليبرالي، وكان النظام مرر مسألة الإلغاء التدريجي للدعم في الخمسية العاشرة 2005 ـ 2010، التي أتت في ألف صفحة وحملت في طياتها الرغبة في التحول الاقتصادي، والتخلي عن المزاعم السابقة بأن سوريا تتبع النهج الاشتراكي في اقتصادها”.

ويرى قرقوط، أن اللافت أن ذلك الانتقال لم يحتج من الحكومات المتعاقبة في دمشق سوى قرارات إدارية قبلها الناس والقوى الاقتصادية والسياسية في البلاد رغما عنهم، إذ لم يكن لديهم خيار رفضها، أو تقديم البديل كنهج اقتصادي يلائم البلاد، وجرى انقسام طبقي عامودي مخيف في سوريا، وزادت معدلات الفقر، وارتفعت نسب البطالة، وانكشف الغطاء عن عشرات السنوات من الفساد والنهب والاستلاب، لم تكن الحكومات التي تنفذ إجراءات “لبرلة” الاقتصاد السوري بحاجة إلى موافقة قوى سياسية أو نقابية أو شعبية على الإطلاق، ولم يكن لدى دمشق قلق من عواقب هذه الإجراءات كإلغاء الدعم وحرمان الناس من حقوقها، بل أن قبضتها الحديدية هي التي كانت تنفذ هذه الإجراءات وتدفع الناس للقبول بها.

ما هو الأسوأ؟

ورغم كل العقابيل التي تركها رفع الدعم على السوريين طوال السنوات الفائتة، فقد كان عام 2021، هو الأسوأ على صعيد رفع الدعم، إذ ذهبت حكومة دمشق نحو إجراءات قاسية ومباشرة في تنفيذ ذلك.

هذا وقد رفعت حكومة دمشق، أسعار المواد المدعومة، فزادت سعر السكر بنسبة 25 بالمئة، والخبز بنسبة 100 بالمئة، والمازوت بنسبة 170 بالمئة، والغاز المنزلي بنسبة 130 بالمئة، والغاز الصناعي بنسبة 300 بالمئة، والبنزين بنسبة 46 بالمئة، والخبز السياحي بنسبة 40 بالمئة، أما الكهرباء فتم رفع تسعيرتها تتراوح ما بين 100 و800 بالمئة.

ويعلق حول ذلك، الكاتب والباحث الاقتصادي، إياد الجعفري، منوها في بداية حديثه لـ”الحل نت” إلى أن التخلص من عبء الدعم على خزينة “الدولة” في سوريا، إنما هي استراتيجية بدأت دمشق بالتخطيط لها، وتنفيذها جزئيا، قبل 2011.

فخلال إدارة حكومة العطري، والتي كان يقود فيها عبدالله الدردري، الفريق الاقتصادي الحكومي، أعلن الدردري ومسؤولون آخرون، أكثر من مرة، أن معظم المشتقات النفطية ستُباع بسعر السوق بحلول 2015. أي أن حكومة دمشق أعلنت صراحة، قبل 2011، أنها تنوي التخلص من معظم عبء الدعم، كاستراتيجية للتحول نحو ما كانت تسميها حينها بـ “اقتصاد السوق الاجتماعي”.

ويتابع الجعفري: ثم ما لبث أن عاد الحديث الحكومي “الرسمي” عن رفع الدعم منذ نهاية 2013، حيث بدأ تنفيذ استراتيجية “البطاقة الذكية” خلال 2014، وإن كان على نطاق ضيق، وتدريجي.

ويشير الجعفري إلى أن الشعار “الحكومي” المرفوع حينها، خاصة في عهد حكومة وائل الحلقي، كان “إعادة الدعم إلى مستحقيه”، لتبرير إجراءات رفع الدعم القاسية، التي لم تأخذ طريقها للتنفيذ الفعلي في ذلك الوقت، بسبب خشية دمشق من انعكاسات الأمر على تماسك “حاضنته” الشعبية.

البطاقة الذكية وإثراء رموز دمشق الاقتصاديين

ويضيف الجعفري؛ لكن، ومنذ منتصف عام 2016، بعد تولي عماد خميس رئاسة الوزراء، بدأت الحكومة تتحدث بشكل جدي أكثر عن ملف رفع الدعم، عبر تقنين عملية توزيع المواد المدعومة، من خلال “البطاقة الذكية”، وتم الترويج لتلك الخطوة عبر الحديث عن الحاجة لمكافحة الفساد والهدر، والحد من تهريب المحروقات إلى لبنان المجاور لبيعه بأسعار ضئيلة، مقارنة بأسعارها في السوق اللبنانية، حينها، كما تم تبرير ذلك أيضا، بالقول إن “البطاقة الذكية” ستنهي مشهد الطوابير أفران الخبز والكازيات، بصورة كبيرة، وسط حالة انقطاع للمواد كانت تتكرر كل بضعة أشهر، وتبررها دمشق، بـ “الحصار” و”العقوبات الغربية” ضدها.

وأبان الجعفري أنه ومنذ عام 2019، بدأت حكومة دمشق في عهد خميس، باعتماد آلية توزيع المحروقات المدعومة عبر البطاقة الذكية، وتوسع ذلك خلال 2020، ليشمل الشاي والرز والسكر، واستمر ذلك مع تولي حسين عرنوس رئاسة الحكومة، لتزداد المواد الموزعة عبر هذه البطاقة، خلال 2021، حيث بدأ توزيع الخبز باستخدام هذه الطريقة.

وقد شكل نظام “البطاقة الذكية”، بحسب الجعفري، استراتيجية مناسبة لتحقيق هدفين في آن، الأول يتمثل بإثراء الرموز الداعمين لحكومة دمشق، إذ تبين أن شركة “تكامل” المنفذة لمشروع البطاقة الذكية يديرها قريب لأسماء، زوجة الرئيس السوري بشار الأسد، فيما كان الهدف الثاني يرمي لتقليل كمية المواد الموزعة، حيث تكررت حالات تأخر رسائل تسليم الغاز مثلا، وكذلك تأخر وصول رسائل استلام مخصصات المازوت، فبعد انتهاء شتاء العام 2021، كان أكثر من 50 بالمئة من مستحقي مادة المازوت ضمن من لم يستلموا مخصصاتهم من المادة في الوقت المناسب، وهذا مجرد مثال فقط.

هذا وتشير تصريحات مسؤولي حكومة دمشق إلى عزمهم الاستمرار في نهج رفع الدعم، بطرق قاسية ومفاجئة، عبر رفع أسعار المواد المدعومة، وبالتالي، تقليص “عبء” الدعم على الخزينة، خلال العام 2022، وهذه السياسة أدت إلى نتائج كارثية على الاقتصاد السوري، إذ خرج جزء كبير من المزارعين والصناعيين، فعليا، من عملية الإنتاج، أو خفضوا حجم إنتاجهم إلى أقل من النصف، جراء عجزهم عن تحمل تكاليف الإنتاج، لاسيما فيما يخص المحروقات والكهرباء.

ووفق تقديرات متحفظة، فقد ارتفعت أسعار المعيشة في مناطق سيطرة حكومة دمشق بنسبة لا تقل عن 150 بالمئة. فيما رفعت دمشق أجور العاملين في القطاع العام بنسبة 80 بالمئة، على دفعتين خلال العام الجاري، أي أن مستوى المعيشة انهار على الأقل، ونظريا، بنسبة 70 بالمئة، أما عمليا فإن المشهد أقسى من أن تصفه كلمات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.