التحديث الحكومي في سوريا: انفصال عن الواقع أم محاولة لذر الرماد في العيون؟

التحديث الحكومي في سوريا: انفصال عن الواقع أم محاولة لذر الرماد في العيون؟

مشاريع التحديث الحكومي في سوريا باتت في الفترة الأخيرة مثارا للسخرية والتندّر بين السوريين، الذين يرى كثير منهم أن حكومتهم باتت منفصلة عن واقع البلاد، التي انهكتها سنوات الحرب، والأزمات الاقتصادية والمعيشية.

وتصدر حكومة دمشق بين الفينة والأخرى قرارات ومراسيم، تعتبرها جانباً من مسيرة التحديث الحكومي في سوريا. مثل “الحكومة الإلكترونية” و”البطاقة الذكية”. إلا أن هذه الإجراءات تفاقم من معاناة المواطنين، بدلاً من تيسير أمورهم، وتسهيل تعاملاتهم اليومية.

موقع “الحل نت” حاول رصد أهم تلك القرارات والمراسيم. وانعكاساتها السلبية على المواطنين.

الحكومة الالكترونية: تحديث فاشل في بلد غارق بالعتمة

“يُحسب لمحافظة حمص أنها كانت من أولى المحافظات السورية، التي واكبت مايسمى بالحكومة الالكترونية عام 2007 ، لكن حال اليوم لا يشبه الأمس”. هكذا علق المواطن سامي زهراوي، وهو يحمل مصنفا فيه أوراق ومستندات على باب إحدى الدوائر العقارية. ويتمنى لو أنه يستطيع إنهاء المعاملة العقارية الخاصة بمنزل عائلته في منطقة “كرم الشامي”.

يقول زهراوي لـ”الحل نت”: “للأسف يبدو أن الحكومة مصرة على ما تسميه مشاريع التحديث الحكومي في سوريا. وأن تعمل بعض الدوائر بنظام الأرشفة الإلكترونية. وأن تسير المعاملات عبر برامج خدمية مؤتمتة. وهي بالتأكيد برامج مفيدة وتطبيقات قيّمة، توفر الوقت والجهد. لكنها لا تناسب حال البلد المتردي، الذي تنقطع عنه الكهرباء والأنترنت. فكيف لنا ان نستفيد من هذه البرامج والتقنيات، وفي كل مرة أراجع فيها دائرة السجل العقاري يتم تأجيلي. بحجة أن الأنترنت مقطوع أو بطيء أو متوقف؟”.

غسان كيخيا، الموظف في دائرة السجل المدني، يوافق سامي زهراوي. مؤكدا أن “واقع الحال في البلاد يستدعي العمل اليدوي. بعيدا عن رفاهية التكنولوجيا ومشاريع التحديث الحكومي في سوريا”.

مضيفا في حديثه لـ”الحل نت”: “للأسف نحن اليوم لا نستطيع مواكبة التطور الإداري، الذي سبقتنا له دول كثيرة، وبات من بديهيات الدوائر الخدمية. فالكهرباء غير متوفرة لدينا. وسرعة الأنترنت لا تخدم طوابير المواطنين، التي تقف منتظرة دورها. ونحن ننتظر معها عودة الكهرباء أو الأنترنت”.

مختتما حديثه بالقول: “نتمنى من الحكومة أن تستوعب أننا قد نضطر احيانا لتصريف الأمور بالنزول إلى الأرشيف. ومحاولة خدمة المواطن عبر الأوراق العادية. وألا نعاقب على ذلك. وخصوصا أن دائرة الأحوال المدنية قد تكون فيها حالات مستعجلة. مثل قضايا إخراج القيد أو الهوية الشخصية”.

البطاقة الذكية: غباء يزيد من مشاكل المواطنين

بدأت الحكومة السورية عام 2020  بتطبيق آلية سمتها “البطاقة الذكية”، ضمن إطار مشاريع التحديث الحكومي في سوريا. وبدأ المواطنون بالذهاب إلى المراكز المعتمدة، التي حددتها، لاستخراج البطاقة الإلكترونية. التابعة لشركة “تكامل”، ليتمكنوا من الحصول على المواد التموينية. مثل السكر والأرز والشاي. وقد توسعت البطاقة الذكية لتشمل مواد أخرى. مثل أسطوانات الغاز والمازوت والبنزين. وأخيراً الخبز.

“سهام ياسين”، تنتظر، مثل كل السوريين في مناطق سيطرة حكومة دمشق، رسالة تأتيها على هاتفها، لتعلمها بموعد ومكان استحقاق الدعم. وتقول لـ”الحل نت”، وهي تنتظر دورها في إحدى نقاط البيع في العاصمة دمشق: “فكرة البطاقة الذكية جيدة. لكن ليس لنا نحن السوريين، الذين نعاني من انقطاع الأنترنت الدائم. فلا نتمكن من فتح موقع البطاقة الإلكتروني، للاستفسار أو الاطلاع. ناهيك عن الأخطاء الكثيرة، التي تحدث عند كتابة اسم الأب أو الكنية. وعقبات أخرى كثيرة. لعل أصعبها ما تفتقت عنه ذهنية الحكومة بحرمان كثيرين من الدعم”.

تتفاقم مشكلة الموظف أحمد المنصور مع البطاقة الذكية، وغيرها من مشاريع التحديث الحكومي في سوريا، بسبب والديه. فهما طاعنان في السن، ولا يجيدان استخدام الهاتف المحمول وتطبيقاته. مؤكداً في حديثه لـ”الحل نت”: “أغرب مافي البطاقة الذكية أنها تتطلب التواصل عبر تطبيق ونصوص ورسائل. تحتم عليك أولاً امتلاك هاتف ذكي. وكأن المسوؤلين لايعرفون أن أقدم طراز هاتف خليوي مستعمل سعره يفوق راتبي بخمسة أضعاف. فاضطررت أن أستدين لأشتري لوالدي هاتفاً يستقبل عليه الرسائل من شركة تكامل”.

مضيفاً: “تعبت وأنا أحاول تعليم أبي كيف يتعامل مع التطبيق. فالشركة حددت عدة طرق للحصول على المواد المدعومة، عبر تطبيق اسمه “وين” على الجوال. أو الطلب من الموقع الإلكتروني الخاص بالشركة. أو قناتها على موقع “تليغرام”. والحقيقة فشلت في جعل أبي أو أمي  يتمكنان من التعامل مع هذه التكنولوجيا. فاضطر للقدوم دائماً من سكني البعيد إلى منزلهما لهذا الغرض. هذه تقنيات لاتناسب كبار السن. وخصوصا أنه باتت هناك اليوم أسر كثيرة ترك أبناؤها البلد. وبقي الأهل لوحدهم”.

الدفع الإلكتروني: تحديث لمصلحة الأغنياء

تابعت المواقع الإعلامية مؤخراً حالة الاستهجان الشعبي، التي رافقت ما أعلن عنه مصرف سوريا المركزي من إطلاق منظومة “الدفع الإلكتروني”، في حفل باذخ، أقيم بقاعة أمية في فندق شيراتون دمشق. بحضور وزراء وشخصيات من غرفة صناعة دمشق وريفها.

ولم يكن الاستفزاز فقط من صور المأدبة الفخمة، في مجتمع بالكاد يجد شعبه قوت يومه. بل من فكرة الدفع الإلكتروني نفسها. التي بدت، مثل كل مشاريع التحديث الحكومي في سوريا، تصوراً سريالياً بالنسبة للمواطن العادي، الذي لن تكون لديه القدرة على فتح حساب بنكي، وحمل بطاقة دفع الكتروني.

يقول الصحفي أيهم المحمد لـ”للحل نت”: “ما صرح به حاكم مصرف سوريا المركزي، بأن المواطن لم يعد مضطراً لحمل النقود الكاش، مجرد انفصال عن الواقع. بل وفيه شيء من السخرية من حال المواطنين. فأي نقود كاش ستتوفر للمواطن السوري العادي؟ هذا المشروع وجد للاغنياء فقط. وكأن الحكومة، ومشاريع التحديث الحكومي في سوريا، تعيش في كوكب آخر. وتعمل فقط لأجل الفئات الفاسدة“.

للطلاب حصة من معاناة “التحديث”

راما هيفا، طالبة في كلية الصيدلة بالسنة الأخيرة، تعاني، أسوة ببقية الطلاب، من مشكلة الحصول على مراجع وابحاث ومقررات. تطلب منهم من قبل أساتذة الكلية بشكل صارم، لاستكمال رسائل بحثهم أو تخرجهم.

 تقول هيفا لـ”الحل نت”: “وكأننا نحن الطلاب لا تكفينا معاناة الكهرباء وهموم الدراسة على الأضواء الخافتة. لنعاني من صعوبات تحصيل المطلوب منا من أبحاث ومراجع، تتطلب اتصالا دائما بالأنترنت والكهرباء. كيف سنتمكن من مواكبة آخر الأخبار العلمية ونحن نفتقر إلى أبسط مقومات البحث العلمي؟”

وتواصل حديثها بالقول: “نستغرب من الحكومة تحميلنا مسؤولية الفشل بتقديم أبحاث ودراسات جديدة، وهي لا تؤمّن لنا ربع ما تؤمّنه الجامعات في البلاد الأخرى لطلابها. لقد بات النجاح بأية طريقة كانت هو الهم الوحيد لنا. فلا مجال للإبداع في بلد كهذا. رغم كل الحديث عن مشاريع التحديث الحكومي في سوريا”.

التحديث الحكومي في سوريا ليس دليلاً على غباء السلطة

الباحث الاقتصادي مسعود رومية يعلق على القوانين والمراسيم المتعلقة بمشاريع التحديث الحكومي في سوريا بالقول: “الحكومة السورية ليست غبية ابداً. وفي الواقع لا توجد حكومة غبية في أي بلد. فكل مشاريع التحديث هذه ما هي إلا ذر للرماد في العيون. لتسوّق حكومة دمشق نفسها خارجيا. بوصفها انتصرت في الحرب. ومنشغلة حاليا بتطوير البلاد”.

متابعا في حديثه لـ”الحل نت”: “لو كانت الحكومة السورية مهتمة بالمواطن فعلا لرأينا قرارات تناسب الواقع الاقتصادي والمعيشي والخدمي. وحال الموطن ودخله المتدني”.

بيما يبرر الحقوقي منير أصلان، وهو معاون رئيس الدائرة القانونية في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل في طرطوس، تصرفات الحكومة السورية وقرارتها بالقول: “لا ينكر أحد أن معظم الشعب السوري بات معدما. وسط ظروف الحصار الاقتصادي بعد الحرب. نعم، هناك بعض القرارات التي لم تكن مناسبة للجميع. لكن ليس من الخطأ برأي العمل على التحديث الحكومي في سوريا. ومجاراة التطور الذي تعرفه الدول المجاورة. خصوصا أننا في مرحلة نعمل فيها على الانفتاح على المحيط الإقليمي بل والدولي. فلا بأس من تقنيات وخطط وبرامج تعطي انطباعا بأننا نتطور وننهض من جديد. ولعل الأمر يساعد على تشجيع الاستثمار والانفتاح على رواد الأعمال في محيطنا. وعلى كل حال فإن قرارات التحديث الحكومي في سوريا إن لن تنفع فهي لن تضر”.

مقالات قد تهمك: عوائل مقاتلي الحكومة السورية: هل ما زالت “الحاضنة الاجتماعية للنظام” متحمّسة للقتال؟

https://7al.net/2022/01/11/%d8%b9%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%aa%d9%84%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9/7aladmin/reports-and-investigations/

رأي أصلان، الذي يؤكد الانتقادات التي يوجهها كثيرون لمشاريع التحديث الحكومي في سوريا، أكثر من نفيها، يدفع كثيرين للتعليق بأن الحكومة السورية في معظم إداراتها باتت تحتاج مرشدا نفسيا واجتماعيا. يضبط تحركاتها وتصريحاتها وقراراتها العبثية. فالسوريون اليوم لم يعودوا يحتملون انفصال حكومتهم عن الواقع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.