في المفهوم الضيق والواسع للنيكروفيليا

يشير مفهوم النيكروفيليا بمعناه الضيق إلى أحد الانحرافات الجنسية المرضيّة التي تشير إلى الرغبة بامتلاك جسد المرأة الميت بهدف ممارسة الجنس مع جثتها. إنه يشير إلى الرغبة في التواجد مع الجثة وكأنها جسد حي. في المرويات التاريخية العربية نعثر على مثال على هذا المعنى الضيق للنيكروفيليا في قصة الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك مع جاريته حبابة. فأثناء لهوه مع حبابة قام بضربها بحبة عنب فابتلعتها خطأّ وماتت اختناقاً بسبب ذلك. يقال بأن الخليفة يزيد بقي 3 أيام يشم جثة حبابة ويقبلها ويرفض دفنها حتى قبل أخيراً بدفنها بسبب ضغط الحاشية والأقارب ومات بعد هذه الحادثة بأربعين يوماً.

في كتابه روح الإنسان ([1])(Erich Fromm: Die Seele des Menschen) وسّع فروم هذا المفهوم الضيق للنيكروفيليا، إذ لم يعد هذا المصطلح يشير فقط إلى انحراف جنسي مرضي، بل أصبح يشير إلى حب الموت بشكل عام، أي إلى الميول النفسية التدميرية العميقة، والتي تدفع الإنسان لممارسة الشر. بالنسبة لفروم توجد الميول النيكروفيلية (حب الموت) والميول البيوفيلية (حب الحياة) في جميع شخصيات الأفراد، إذ أن النيكروفيلي الكامل هو الشخص المجنون، والبيوفيلي الكامل هو القديس.ولكن ما يسهم في تعزيز أحد من الميلين على حساب الميل الآخر في البنى الشخصية للأفراد هو تأثيرات البنى الاجتماعية وثقافتها المهيمنة. بيت القصيد هنا والذي يميز مدرسة فروم في علم النفس المجتمعي، هو أن الميول التدميرية التي تظهر في سلوكيات الأفراد لا يمكن ردها فقط لتطورات الشخصية الفردية، إنما هي نتيجة لتأثيرات الواقع الاجتماعي والنظم السياسية والثقافية المهيمنة فيه. فهذه النظم إما أن تسهم في تعزيز حب الحياة أو حب الموت.

يشير فروم إلى جملة من السمات التي تميز الأشخاص ذوي الميول النيكروفيلية المهيمنة. فهم عادة يتحدثون عن الموت والمرض أكثر من حديثهم عن الحياة. إنهم يحيون تماماً عندما يتحدثون عن الموت. النيكروفيليون مهووسون بالتقاليد عاجزون عن التطور، هم مشدودون دائما للماضي وينظرون له على أنه الواقع الحقيقي في مقابل انعدام قيمة الحاضر ووهميته.  النيكروفيليون كذلك مفتونون بامتلاك القوة. فاستخدام القوة العنيفة هي الوسيلة لتحقيق الموت وهي الوسيلة كذلك لإذلال الآخرين وسلبهم حرياتهم وممتلكاتهم. قصص القتلة تسكن مخيلتهم وتثير إعجابهم بينما قصص الضعفاء والمقتولين تثير اشمئزازهم. النيكروفيلي متمسك دائما بما يملك، فملكيته هو صلته بالعالم وإن فقدها فقد وجوده بالعالم. يقدس النيكروفيلي النظام القائم، لأن النظام يحد من التطور ويحد من الإبداع ويحول الأشخاص العضويين والحيويين فيه إلى مجرد آلات لتنفيذ الأوامر. لم يكن هدف فروم من محاولاته دراسة الشخصية النيكروفيلية هو ممارسة ترف نظري علمي محايد، بل كان همه الشاغل محاولة تفسير كيف أمكن لنظم استبداد كالنازية والفاشية أن تنتشر بسرعة وقوة، وتسيطر على جماهير بلادها وتدفعها لخوض حرب عالمية وحشية أظهرت كل ما في الإنسان من قوى تدميرية كامنة. إن هم فروم إذاً كان سياسياً بالدرجة الأولى، ويبرز هذا في اعتباره هتلر كخير مثال على الشخصية النيكروفيلية التي تقدس الموت للوصول للأهداف، وتعتبر الدمار مجد، وإذلال الناس الآخرين والمختلفين ضروري لوجود الذات. فروم يشير بصراحة إلى أن جميع العينات التي قام بتحليلها أظهرت بأن ميول حب الموت في شخصيات الأفراد كانت مرتبطة بالبني السياسية والإيديولوجية المهيمنة فيها. إذ أن معظم النيكروفيليين ضمن عينات التحليل كان لديهم بشكل مباشر أو غير مباشر مواقف مؤيدة للأنظمة العسكرية العنيفة، أو تلك التي تمارس قمع وحشي ضد المنشقين والمعارضين.

من جهتها تطرح الباحثة لوجين روسينفي دراستها عن أفلام الزومبي السؤال عما إذا كان الانتشار العالمي لها هو تعبيراً عن شعور إنسان ما بعد الحداثة بأنه كالزومبي، جثة ميتة من الداخل وتتحرك دون هدف، ومحاطة بمظاهر الاشمئزاز والعنف وتشعر بالحماسة للموت والدمار. استناداً إلى أفكار إيرش فروم توصلت إلى أن ارتفاع معدلات مشاهدات أفلام الزومبي تعكس بشكل مباشر الثقافة المعولمة ذات الطابع النيكروفيلي وتعكس رغبة القوى العالمية المسيطرة والمحتكرة لإنتاج الثقافة والفن إلى تعزيز اتجاهات حب الموت لدى الأفراد، وتعتبر تعبيراً صارخاً عن اغتراب الإنسان عن نفسه، لأنه أصبح مقموعا بشكل مباشر وغير مباشر ضمني وخفي من قبل هياكل السلطة والقوة التي باتت تتحكم في جميع تفاصيل حياته بشكل يسلبه القدرة على حب الحياة.

نظم الاستبداد العربية وتعزيز النيكروفيليا

عززت الأجهزة الإيديولوجية لأنظمة الاستبداد العربية الميول النيكروفيلية المرتكزة على حب الموت وتقديس الماضي على جميع مستويات الحياة الاجتماعية، ابتداء من الحياة اليومية الاعتيادية وممارساتها، وصولاً للحياة السياسية العامة.الأمثلة على هذا لا نهاية لها بشكل يمكن معه أن تتم المحاججة بأن النيكروفيليا عنصر أساسي من عناصر الإيديولوجية العربية المسيطرة بمختلف أشكالها والتي تم تعزيزها إما عن طريقة الفرض وممارسة القوة الواضحة والمعلنة، أو عبر أدوات الهيمنة الخفية الثقافية والفنية والتي تعمل بشكل خفي وغير مباشر على تعزيز ميول معينة في الأفراد المستهدفين، لتبرز هذه الميول على أنها توجه طبيعي واعتيادي في الحياة، بينما هي في الحقيقة توجهات تخدم النظم القائمة ويتم تعزيزها من قبلها.

 الإيديولوجية العربية المهيمنة مثلاً تعمل على تبجيل القوة التي يملكها الزعيم، بشكل يتم رفعه بها إلى مستوى الآلهة. تقديس الزعيم وتبجيل قوته يقود إلى تبرير كل الجرائم التي يرتكبها، وتصبح كل ملامح العنف والقسوة التي يملكها مثلاً أعلى يحتذى به لدى الأتباع. تعليم التاريخ في المدارس العربية على سبيل المثال يخدم هذا التوجه، إذ لا يتم عرض التاريخ إلا من خلال الشخصيات القوية التي قادت المعارك وشنت الحروب، بحيث يختصر تاريخ الأمة بأكملها إلى مجرد تاريخ لتعاقب القادة، ويعزز هذا في نفوس المتعلمين النشوة بالقوة. الافتتان بالقوة يقود إلى تعزيز ميول حب الموت لأن القوة هي الوسيلة لتحقيقه. يمكن أن نضرب أمثلة على ذلك في الافتتان بشخصية الرئيس الراحل صدام حسين وهيبته وقوته، وكذلك الأمر في شعارات إيديولوجية أطلقت مع بداية الحرب الأهلية المدوّلة في سوريا كشعار الأسد أو نحرق البلد. الدمار والخراب والموت ضمن هذا الشعار يبدو أمراً جيداً إن كان يقود لبقاء الزعيم المقدس صاحب القوة والذي يمثل بقاءه الحياة الحقيقية بالنسبة للنيكروفيليين. ولا يختلف هذا الشعار عن شعار جئناكم بالذبح الشهير الذي روجته داعش. فالشعارين وجهين لعملة واحدة ويعتمدان بوضوح على التبشير بالخراب والدمار والموت بوصفه السبيل للحياة.

يبرز تقديس الموت كذلك في التركيز على موضوع الشهادة والشهيد. لا يحمل تكرر موضوع الشهيد والتغني به في المرويات الشعبية والكتب المدرسية ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية بعداً دينياً، بل بعداً سياسياً بالدرجة الأولى يتم تغليفه بإطار ديني. تحتاج نظم الاستبداد القائمة على امتلاك الزعيم للقوة التدميرية لأشخاص يتقبلون الموت على اعتباره طريقاً لحياة أبدية أفضل، وعلى اعتباره شكل آخر من أشكال الحياة وأنه شرف كبير لا يضاهيه شرف آخر. من غير الممكن لنظم الاستبداد وحركات التطرف المعارضة لها والتي تعتبر الوجه الآخر لهذه الأنظمة، أن تستمر دون وجود أشخاص مقتنعين بأن الموت هو الحياة. من هنا يمكن القول بأن التركيز على موضوع الشهيد وإضفاء هالة القداسة على الموت خدم ويخدم بشكل مباشر أهداف تجنيد الناس في الصراعات المسلحة عبر تعزيز الميول النيكروفيلية لديهم وجعلهم يتقبلون فكرة التضحية بأنفسهم. محطات الأخبار العربية والتي تعرض مشاهد القتل والدماء دفعت أيضا إلى أن يصبح الموت ومشاهدة الجثث أمراً اعتيادياً. ومع تزايد وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة برز بوضوح تناقل فيديوهات القتل والتعذيب،والتي كانت تثير مشاعر إيجابية لدى البعض، إن كان المقتول أو الممثل بجثته ينتمي للطرف المعادي الآخر. عبر الفن تظهر الميول النيكروفيلية في الأغاني الشعبية التي تمجد الحزن والنواح والبكاء على الأطلال أو عبر بعض المسلسلات مثل مسلسلات البيئة الشامية التي تم دعمها بوضوح من قبل النظام السوري والتي تركز على معايير القوة وتمجدها، وتعبر عن حنين مريض للماضي بوصفه الحياة الحقيقية التي يجب أن يحياها الشعب. في معظم هذه المسلسلات يتم إقحام فكرة الشهيد إقحاما مما يعزز فكرة حب الموت لدى المشاهدين. ناهيك أيضاً عن تبرير القتل والتلذذ به لدواعي الشرف، والمشهد الشهير في مسلسل باب الحارة، عندما خاطب أبو عصام ابنته بكلمات ‘بشختك على البالوعة‘ خير دليل على ذلك.

إن تقديس الماضي سواء عبر السلفية التي توقف التاريخ ضمن رؤيتها مع مرحلة الخلافة الإسلامية، أو عبر القومية الشوفينية والتي تعتبر أن الأمة العربية ذات رسالة خالدة لا تتغير عبر التاريخ تعزز حب الموت على المستوى الفكري. فكلا التوجهين يرفضان النمو والتطور والتغير وهي من ملامح حب الحياة، ويركزون على الأصل الجوهري الثابت المكتمل في الماضي والذي يجب العودة له. نظرة القداسة هذه تقود كذلك إلى التكفير والتخوين لكل من يخالف قداسة الماضي. كل من التكفير والتخوين ينزعان الشرعية عن الشخص المكفر والمخوّن مما يمهد الطريق لتبرير قتله، لأن في قتله وسيلة لتحيى الجماعة أو الأمة. مثل هذه الرؤية ترى في موت الآخر المختلف وسيلة لحياة الذات، وبالتالي فإن الموت هو جزء أساسي من مكونات الحفاظ على الوجود الذاتي لديها.

إن تقديس الزعيم صاحب القوة، الافتتان بمشاهد الخراب والدمار والجثث، تقبل الموت على أنه شرف كبير وشكل من أشكال الحياة الأبدية، وتقديس الماضي ورفض التجديد، كلها عناصر تعزز من ميول النيكروفيليا أي حب الموت، والتي خدمت وتخدم بشكل واضح أهداف أنظمة الاستبداد والتطرف والتي تحتاج إلى بشر خاضعين، مستعدين للتضحية في سبيل قادتهم، يحبون الموت ويشعرون بالعجز أمام الحاضر والمستقبل. وإن كانت التطورات التاريخية في الدول العربية خلال العشر سنوات الأخيرة قد أبرزت بوضوح الحاجة إلى ثورة تنوير ثقافية ومعرفية، فإن كشف ميول حب الموت وفضح دورها الخادم للطبقات المسيطرة في الدول العربية يمكن اعتبارها خطوة على طريق التنوير المعرفي والذي يجب أن يشمل جميع مستويات الحياة الاجتماعية.

مراجع للاطلاع:

Erich Fromm: Die Seele des Menschen: Ihre Fähigkeit zum Guten und zum Bösen.http://www.irwish.de/PDF/Psychologie/Fromm/Fromm-Die_Seele_des_Menschen.pdf

Lugene Rosen: A Culture of Necrophilia: The Rise of the Undeadin Film.

https://digitalcommons.chapman.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1005&context=librarian_articles


([1])  يجب التنويه إلى أن كتاب فروم المعنون بالألمانية „Die Seele des Menschen“ تم ترجمته للعربية بعنوان جوهر الإنسان. كلمة Seele تعني في الألمانية الروح، ليس الروح بمعناها الديني، إنما الروح بوصفها عبارة عن القوى العاطفية والانفعالية للإنسان والتي تحدد قدراته وميوله نحو الخير والشر. لم يستخدم فروم كلمة جوهر Essenz في عنوان كتابه. لهذا فضلت استخدام كلمة روح الإنسان كترجمة لعنوان كتابه بدلا من الترجمة السائدة جوهر الإنسان. كما أن فروم لم يهدف إلى تحليل جوهر ثابت للإنسان، بل إلى الميول التدميرية التي ترتكز على حب الموت في مواجهة الميول البيوفيلية التي تقوم على حب الحياة وتنشيط فاعلية الفرد في محيطه والنمو الإنساني والاجتماعي المستدام.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.