مسألتان يستنكرهما الشارع الثوري السوري، دون فهم مبرراتهما: أن يقال عن ثورتهم أنها ثورة جياع، وكأن ثورات الجياع لم تشكّل أكثر من نصف الثورات التي شهدها التاريخ البشري، إلا في سورية تخبرك ردود الفعل على هذا الأمر وكأنك تعيّر الشعب السوري بالجوع وبالتالي تحط من كرامته، مع أن بلداناً أغنى من سوريا في الإنتاج الزراعي والوفرة أصابتها المجاعات، أغلب شعوب أوروبا عانت في مراحل تاريخية من المجاعات، بل وتسبب الجوع بحدوث مجاعات أتت على جزء كبير من شعوب تلك القارة، كما أن الثورة الفرنسية نفسها كانت ثورة جياع، والغريب أن السوريين فعلاً يرزحون منذ سنوات تحت وطأة المجاعة، وحتى قبل 2011 كان السوريون أقل الشعوب استهلاكا للحم والسمك والكثير من الأشياء الضرورية.

المسألة الثانية التي يستنكرها السوريون، بمثقفيهم وعامتهم، الفيدرالية، أو اللامركزية، مع أنها أيضاً شكل من أشكال الدولة يتم تطبيقه في مناطق مختلفة من العالم بنجاح وبدون أي مشاكل، بل أن البلدان التي تطبقها تنعم بالسلام ولانسجام والتوافق بين شعوبها بدرجة كبيرة، أما في سورية فيجري تبرير رفض اللامركزية على أنها تنطوي على خطر تقسيم البلاد أو قد تكون مقدمة لبلقنة سورية وتحويلها إلى مجموعة من الكانتونات المستقلة، ثم، في رأي هؤلاء، أن سوريا تختلف عن الدول التي تطبق الفيدرالية بوجود وحدة عرقية ودينية بين سكانها، في حين أن السبب الرئيسي، في الغالب، لتطبيق النظام الفيدرالي وجود خصوصيات لدى شعوب الدولة، أو جزء منهم، يضمن النظام الفيدرالي احترامها وضمان عدم ذوبانها في وسط الأكثرية.

بالنسبة لهؤلاء، ليس مهماً أن تعدّد لهم أكثر من عشرين دولة فيدرالية في العالم من بينها، الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واستراليا وبلجيكيا وسويسرا وكندا، إذ ببساطة من الممكن أن تتم إحالتك إلى نماذج أخرى مثل فرنسا على سبيل المثال، التي شهدت حروب دينية استمرت عشرات الأعوام بين الكاثوليك والبروتستانت، وقامت مذابح كبيرة بينهم، لدرجة أن بعض المؤرخين يذكر أن أقاليم كاملة تمت إبادتها، ورغم ذلك ظلّت فرنسا تطبق المركزية، واليوم لا أحد يفكر في فرنسا بهذا الماضي.

أما موضوع التعدد والاختلاف في سوريا فيتم الالتفاف عليه بطريقة غريبة، إذ يقولون لك أن التعدد في سورية غير موجود، فأغلبية السكان هم من العرب، بما في ذلك المسيحيون و الدروز والعلويين وغيرهم، كما أن أكثرية السكان مسلمون، عرب وأكراد، وبالتالي فإن الاختلافات البسيطة لا تعدو أن تكون خلافات مناطقية لا يجوز على أساسها تحويل البلد إلى حكم لا مركزي، كما أن الجميع لهم نفس الثقافة والمعتقدات والقيم، وقد تكون الفوارق بين أبناء حلب ودمشق أكبر منها بين فلاحي حوران والقامشلي، وبالتالي لا مبرر للحديث عن خصوصيات واختلافات وهويات يتوجب الحفاظ عليها وتمييزها وحفظها من الذوبان في أغلبية بالأصل ليست متماسكة وليس لديها مخططات للهيمنة على غيرها.

برز هذا الاعتراض بشكل واضح عندما قيل أن روسيا طرحت مشروع دستور يتضمن اللامركزية في سوريا، وبرز أكثر عندما طرحت بعض الأحزاب الكردية فكرة اللامركزية، ولاقى استهجانا لدى أوساط السوريين عندما طرح بعض المتظاهرين في  السويداء مؤخراً فكرة اللامركزية كخيار لحل الأزمة التي تمر بها المحافظة الجنوبية، حتى أن الكثير من أبناء السويداء نفسهم حاول التبرؤ من الطرح، كما اعتبر البعض أن موفق طريف، زعيم الطائفة الدرزية في إسرائيل، والذي طرح فكرة منح الدروز في سوريا وضعاً خاصاً في الدستور المنوي إقراره، إنما ينطق بلسان إسرائيلية ويروج لمشروع إسرائيل القديم الذي يشجع قيام دولة درزية صديقة لإسرائيل في جنوب سوريا.

لكن هل هذا الرفض القاطع لفكرة اللامركزية هو خيار عقلاني ومنطقي، وماذا إذا كان هذا الطرح خياراً مناسباً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سورية؟، ما من شك أن الأزمة السورية وصلت إلى طرق مسدودة، والعملية السياسية كما وصفها المندوب الفرنسي الدائم لدى الأمم المتحدة نيكولا دو ريفيير أصبحت بمثابة ” مزحة”، كناية عن لا فعاليتها وجدواها، في ظل إصرار نظام الأسد  وحلفائه الروس والإيرانيون على عدم الجدية وتضييع الوقت وإعادة الأوضاع إلى ما قبل 2011 ، والأهم من ذلك في ظل تراجع قدرة الثورة عن  فرض بدائل مناسبة للشعب السوري، وعودة الحكم العسكري والمخابراتي إلى أبشع أشكاله وصوره، وانغلاق كل منطقة على نفسها، بحيث تواجه أزماتها منفردة دون قدرة على صناعة شارع موحد يستطيع مواجهة هذا التنكيل الذي يصل إلى حد الاستعراض أحيانا من قبل الأسد وعصاباته، ما العمل؟.

ليس ثمة أفق لحلول ممكنة في المرحلة القادمة، الجميع يتفق على أن الثورة ليست خياراً ممكناً في المدى المنظور، فالناس منكوبة لدرجة أنها لا تفكر بأكثر من كيف تستطيع تلقّف النفس التالي، والأسد باق وسيورث ابنه كرسي الحكم، وروسيا وإيران لن تتخليا عن مكاسبهما الجيوسياسية، واللجنة الدستورية لن يطول بها المقام قبل أن يتم الإعلان عن عدم الحاجة لها، وبعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران ونهاية أزمة أوكرانيا، أياً تكن السيناريوهات، ستتغير الأوضاع حكماً لصالح النظام الحاكم، فما الذي ما زال السوريون ينتظرونه؟.

خيار اللامركزية الآن هو أفضل الحلول للأزمة السورية، ويتوجب أن تتضافر جهود مكونات المعارضة السورية للمطالبة بهذا الحل، على الأقل من شأنه تخفيف قبضة حكم الأسد إلى حين إيجاد بديل له، كما ينهي سيطرة هذه العصابة على ثروات سورية والتحكم بمصائر شعبها، وهذا الخيار باتت تفرضه المعطيات السياسية اليوم بدرجة كبيرة، وقد تشكّل احتجاجات السويداء فرصة لدعم هذا الخيار، الذي بدوره يشكل الفرصة الأخيرة لإنقاذ الشعب السوري من عذاباته.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.