ازداد الواقع المعيشي سوءا، في مناطق سيطرة الحكومة السورية، خاصة، مع قدوم شهر رمضان. فقد طاول ارتفاع الأسعار معظم المواد الغذائية والخضار واللحوم بأنواعها.

وفي الوقت الذي كان المواطنون من ذوي الدخل المحدود -وهم الشريحة الأوسع داخل المجتمع السوري- ينتظرون قرارات جادة لعرقلة التضخم، تكتفي حكومة دمشق بالتوجه نحو ما يمكن تسميته بـ”مسار الدعم الممزوج بالفقر”، من خلال تقديم قروض استهلاكية ترفع نسبة العبء المعيشي. و من جهة أخرى تصر الحكومة على طرح سلات غذائية رمضانية في صالات المؤسسة السورية للتجارة بأسعار غير متناسبة مع مداخيل المواطنين.

و بالتوازي، أصدرت الحكومة السورية قرارات يرى مراقبون أنها تتناسب ظاهريا مع التجار، على الرغم من تصريحات المسؤولين المتواصلة حول مسؤولية التجار المحتكرين، في افتعال أزمات معيشية تطاول السكان. ومؤخرا، رفعت الحكومة الخدمات المقدمة في المقاهي والمطاعم بزيادة على الأسعار بنحو 20 بالمئة، و أسعار الخبز الصمون والسياحي إلى ما يقارب الـ 4 آلاف ليرة للكيلو الواحد. إضافة لرفع أجور الأطباء والمشافي الخاصة.

ومن جانب آخر، تفيد دراسة حديثة صادرة عن صحيفة “قاسيون” بأن وسطي أكلاف المعيشة لأسرة سورية مكونة من 5 أفراد تجاوزت مع بداية شهر رمضان، حاجز 2.8 مليون ليرة سورية، وهو ارتفاع غير مسبوق خلال فترة قياسية يهدّد معه ملايين السوريين الذين يرون اتساعاً كارثياً بين تكاليف المعيشة والحد الأدنى لأجر العامل السوري الذي لا يزال عند عتبة 92,970 ليرة سورية، أي أقل من نصف تكلفة الحد الأدنى لغذاء الفرد العامل لوحده. بحسب الصحيفة.

منطق تجاري تحت غطاء الدعم

قبيل حلول رمضان، أعلنت مؤسسة “السورية للتجارة” عن قروض استهلاكية للموظفين بشكل حصري، لشراء المواد الغذائية بالتقسيط، ومن دون فوائد وبأسعار مبيع المواد حاليا في صالات السورية للتجارة من دون أي زيادة.

كما أعلنت المؤسسة طرح سلة غذائية بأسعار منافسة لا تتجاوز 80 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل راتب موظف حكومي عن شهر كامل.

وخلال حديث لـ”الحل نت” يوضح الخبير الاقتصادي يحيى السيد عمر، أن السبب الرئيسي لسياسة الدعم الحالي الذي تقوم بها الحكومة السورية يتمثل بعجزها عن تقديم دعم حقيقي.

ويضيف أن الحكومة تحاول تضخيم الدعم الحالي المقدم لشرائح محددة من المواطنين، وتصويره على أنه دعم فعال، ولكن الواقع مغاير لهذا الأمر، فالدعم الحكومي الحالي عاجز عن رفع مستوى المعيشة.

وللهروب من استحقاقات هذا الأمر لم يتبق للحكومة إلا تقديم القروض الاستهلاكية، وهي لا تحل مشكلة، وفي ذات الوقت من شأنها التأثير على التضخم النقدي، وهو قد يحقق بعض الإيرادات البسيطة للحكومة كونها باتت تسعر السلع وفقاً لسعر السوق ناقصا 20 بالمئة، فهناك اتهامات للسورية للتجارة بأنها تعمل وفق منطق تجاري وليس وفق منطق حكومي يتطلب منه تقديم دعم بغض النظر عن حسابات الربح والخسارة.

أما كرم شعار، مدير الأبحاث في مركز السياسات وبحوث العمليات، فيعتبر أن ما أعلنته السورية للتجارة مؤخرا عن قروض استهلاكية هو استمرار لأشكال عديدة تطرحها الحكومة تصنف ضمن فئة القروض الصغيرة جدا، مثل قروض المشروعات متناهية الصغر، التي تمنحها بعض البنوك. وهي خطة تتبعها الحكومة منذ قرابة سنتين.

ويضيف خلال حديث لـ”الحل نت” بأن ما يحدث من تدني في مستوى معيشة المواطنين وارتفاع معدلات التصخم هو استمرار لسياسات سابقة، وانعكاس إضافي لتدهور الوضع الاقتصادي للحكومة السورية. وكالعادة، من يتحمل العبء الأكبر، هو المواطن العادي وليس الحكومة والمحيطين بها.

وكانت الحكومة السورية طورت خطة للتمويل الصغير من خلال تأسيس مصرف “بيمو السعودي الفرنسي للتمويل الأصغر”، في نيسان/أبريل 2021 بهدف تقديم قروض تشغيلية لأكبر شريحة ممكنة من صغار المنتجين، وأصحاب الأعمال الصغيرة ممن يستطيعون ممارسة عمل اقتصادي وإقامة مشاريع جديدة أو التوسع بمشاريع قائمة.

ويعد المصرف ثالث البنوك التي أطلقت ضمن قطاع التمويل الصغير، ويمنح إلى جانب مؤسستي “التمويل الصغير الأولى”، و”الوطنية للتمويل الصغير”، قروضا تشغيلية للأفراد المنتجين بقيمة متناهية الصغر تصل لحدود الـ15 مليون ليرة سورية بكفالة أو دون كفالة، مع إعفاءات من جميع الرسوم على كل العقود أو العمليات مع المصرف، وهو ما يقلل من كلفة القرض.

قرارات مصممة للتماشي مع الأسعار

تظهر سلسلة القرارات التي تواظب الحكومة السورية على إصدارها، وكأنها تخدم مصلحة شريحة محددة وهم التجار والمستثمرين، إذ ترفع أجور الأطباء والمشافي الخاصة وخدمات المقاهي والمطاعم، وحتى الأكلات الشعبية مثل الفول والفلافل، دون طرح حلول جادة، يمكن تقديمها للشرائح الفقيرة التي تعاني من تبعات هذه القرارات.

ويؤكد شعار بأن الحكومة تواصل اتباع خطة قديمة تتمثل بإصدار قرارات مصممة لتعكس وتتماسى مع واقع زيادة الأسعار.

ويضيف بأنه “على سبيل المثال: رفع أسعار الخدمات التي تقدمها المطاعم والمقاهي بنسبة 20 بالمئة هو خطوة للتعامل مع الزيادة التي حصلت في الأسعار سابقا، وكالعادة تضع الحكومة نسبة زيادة في الأسعار الرسمية للسلع والخدمات بحيث تكون أقل من سعر السوق، حتى تبقي التجار بشكل دائم تحت حالة ضغط وكسر للقانون في حال اضطروا لبيع السلع بسعرها الحقيقي الذي يغطي الكلفة ويحقق هامش ربح معقول”.

ويتفق الباحث يحيى السيد عمر، مع قراءة شعار، فالقرارات “تظهر وكأنها تحمي التجار ظاهريا. لكنها تهدف في جوهرها لحماية الأنشطة الاقتصادية من الإفلاس، لا سيما أن هناك نزعة كبيرة لدى كبار التجار وصغارهم إلى مغادرة البلاد، وهو ما يهدد -على المدى المتوسط- بتوقف النشاط التجاري بالكامل، لذلك تسعى حكومة دمشق لترغيبهم في البقاء من خلال زيادة نسبة أرباحهم”.

ويضيف بأن مناطق الحكومة السورية تعاني من عجز كبير جداً في أعداد أطباء التخدير، لذلك قامت برفع رواتبهم كوسيلة للحد من هجرة من تبقى منهم، وعلى ما يبدو فهذه السياسة غير ناجحة كون الهوة بين الدخل والنفقات حاد جدا.

من يوقف ارتفاع معدلات التضخم؟

توضح الأرقام التي قدمتها صحيفة “قاسيون” بأن وسطي أكلاف معيشة الأسرة، شهد في شهر آذار 2022 ارتفاعا غير مسبوق بمقدار 833,405 ليرة سورية عن الأكلاف التي تم تسجيلها في بداية العام الجاري، حيث ارتفعت من 2,026,976 ليرة سورية في كانون الثاني إلى 2,860,381 ليرة في آذار، ما يعني أنها ارتفعت بحوالي 41 بالمئة خلال ثلاثة أشهر فقط، بينما تراوح الأجور مكانها، إذ لا تمثل في حسابات اليوم إلا 3.2 بالمئة من وسطي أكلاف المعيشة في شهر آذار.

وتشير الدراسة إلى أن الحد الأدنى لأكلاف الغذاء الأساسية لأسرة من خمسة أفراد ارتفع بنسبة 41 بالمئة عن المستوى الذي تم تسجيله في شهر كانون الثاني 2022. وطاولت الارتفاعات مكونات سلة الغذاء كلها، ولا سيما الخضروات التي ارتفعت من 430 ليرة سورية للفرد يوميا إلى 955 ليرة، أي بارتفاع يزيد عن 122 بالمئة. وكذلك الفواكه التي ارتفعت من 260 ليرة يوميا إلى 767 ليرة، أي بما يزيد عن 195 بالمئة. وكذلك الحال بالنسبة للحوم (الدجاج واللحوم الحمراء) التي ارتفع ثمن 75 غرام منها للفرد الواحد يوميا من 1,837 ليرة في كانون الثاني إلى 2,288 ليرة في آذار أي ما يصل إلى 24 بالمئة، وأيضا الحلويات، التي ارتفع سعر الـ 112 غرام منها بنسبة 25 بالمئة خلال ثلاثة أشهر مرتفعة من 1,344 ليرة إلى 1,680 ليرة.

ويعلق الباحث يحيى السيد عمر على الدراسة بأن “هناك تضخم مستمر -بالفعل- في سوريا وخاصة في مناطق الحكومة السورية، جزء منه تضخم مستورد والآخر محلي. فالمستورد لا تملك الحكومة أي سيطرة عليه، وتأثيره مرتفع نتيجة الإفراط في الاعتماد على الاستيراد وتراجع معدل الإنتاج المحلي. أما التضخم المحلي فهو نتيجة مباشرة لسياسة التمويل بالعجز الذي تفرط حكومة دمشق في الاعتماد عليه”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.