يُغفل العديد من المحللين للوضع الداخلي السوري التغييرات الكبيرة التي حلّت في بنية النظام الحاكم خلال السنوات الـ12 الأخيرة، باتجاه الكثير من الضعف والتفكك. كان الفساد مرافقاً للنظام منذ انقلاب السبعينيات، في مؤسسات القطاع العام والأجهزة الأمنية والطبقة التجارية المتحالفة معها؛ ورسملت طبقة جديدة من هؤلاء، رغبت في السيطرة على السوق، واتجاه الاقتصاد ليتوافق مع رغبتها في الاستثمار في الجانب الريعي وتحقيق الربح السريع عبر التركيز على الاستيراد على حساب توقيف دعم المنتج الوطني.

تشكلت تحالفات تجارية أمنية جديدة، ضغطت على النظام للدخول في انفتاح اقتصادي أكبر، تحقق ذلك مع استلام الأسد الابن، بإصدار سلة مراسيم اقتصادية بعد 2005، وتعيين حكومة ناجي العطري- عبد الله الدردري- محمد الحسين، لتنفيذ تلك المراسيم، والتي كانت تتجه إلى رفع الدعم الحكومي عن القطاعات الخدمية؛ بالتالي صار الفساد عنواناً أكثر وضوحاً للسنوات العشرة قبل الثورة.

بعد الانتصار الوهمي الذي حققه النظام على معارضيه باستعادة مساحات واسعة من الأراضي، بترتيب من المحتل الروسي، ومساعدة المليشيات الإيرانية، يبدو (النظام) اليوم مهلهلاً، خاصة نتيجة العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية؛ وأظهرت الصراعات الداخلية التي ظهرت إلى العلن، بين مافياته الاقتصادية، أنه ليس لديه خطة لمواجهة العقوبات، وأن تلك المافيات التي دعمته تفرض عليه، أيضاً، الاستمرار، بل وتكثيف سياسة تحرير الأسواق، وأنها في حالة تنافس شرس، وإقصاء بعضها البعض، لجني الأرباح المهولة، حتى لو كانت من جيوب المواطنين.

بالتالي، النظام عاجزٌ عن التخلي عن سياساته الليبرالية الحديثة، وبالتحديد الاعتماد على الاستيراد، فيما أصبح يصدّر المنتجات الأساسية، كزيت الزيتون والحمضيات والخضراوات واللحوم وغيرها، للحصول على القطع الأجنبي، وهذا أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية. هذا يعني أن حالة الفساد المرتبطة ببقاء النظام تحولت إلى تعفّن، خاصة مع رواج تجارة المخدرات والجنس وبيع الأعضاء البشرية، وما يرافقها من تبييض للأموال.

هذا التعفن الذي طال بنية النظام ينعكس على الشعب في مناطق سيطرته بالضرورة، فأخلاق الشعب من أخلاق الطبقات الحاكمة، وهذا يعني المزيد من التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي والنفاق الاجتماعي والديني، وغياب قيم المؤازرة والتعاضد، وبدلاً عن ذلك تسود القيم الاستهلاكية، والكثير من مظاهر الاكتئاب واليأس، وانتشر الإقدام على الانتحار، خاصة لدى الفئة الشابة.

وهذا التوصيف لا يخصّ مناطق سيطرة النظام، فقوى الأمر الواقع الحاكمة في مناطق النفوذ المتعددة، بدورها من نفس تركيبة النظام الأمنية، وترتبط بالجهات الإقليمية والدولية الداعمة لها، واقتصادها قائم على النهب، وتتشارك مع بعضها ومع حكومة النظام ومافياته التجارية في شبكة علاقات اقتصادية، وتقوم بنفس الدور في المجتمعات التي تحكمها.

المجتمع الدولي لم يحسم مسألة تقسيم المناطق في سورية، وإن كانت أمراً واقعاً، حيث يغيب حل الأزمة السورية عن أذهان الأطراف المتدخلة في الشأن السوري، خاصة مع استعصاء دولي جديد يتعلق بالحرب في أوكرانيا. فيما ما زالت حكومة النظام معترفاً بها في الأمم المتحدة عبر وجود ممثلها هناك؛ وهذا يعني أن طبيعة النظام وسياساته الداخلية ستنسحب حتى على المناطق الخارجة عن سيطرته.

أما المعارضة المكرسة والمتصدرة للمشهد السياسي، التي تقول بتمثيل الثورة والشعب، فهي الأبعد عن أية أخلاقيات ثورية، لأنها منذ البداية تربّت على يدي النظام، حتى لو قابلها بالقمع الشديد؛ وكل ما لديها من سياسات معارضة هي ردود فعل على قمع النظام لها، وتفرّده بالحكم، والنهب، وبالتالي لا تطرح بديلاً عنه غير فكرة الديمقراطية، على أنها ستأتي بالخير على الشعب.

منذ بداية الثورة السورية، وتشكل المجلس الوطني، سارعت شخصيات معارضة منه إلى الإعلان عن تبني نفس السياسات الليبرالية الجديدة للنظام، وطرحت أفكار تحرير الاقتصاد في 2011 و2012، خلال مؤتمرات خُصِّصت لأجل ذلك، في بروكسل ثم دبي، وكان من المفترض أن تستمر تلك المؤتمرات، لولا تعقّد الوضع السوري، وتبدد وهم إمكانية انتصار الثورة بتدخل خارجي أو دعم خارجي، وما رافق ذلك من خلافات سياسية بين كتل المعارضة وشخصياتها.

هذا يعني أنّ الأفكار الاقتصادية التي تطرحها المعارضة كلها تهدف إلى استمرار سياسات النهب، مع تبدل الشخصيات المستفيدة، ولا تملك سياسات تنموية تنطلق من الواقع السوري والاحتياجات البشرية الأساسية، والاحتياجات اللازمة لتحسين حال الشعب، وتخليصه من الفساد والاستغلال الذي يمارسه النظام بدعم من أجهزته الأمنية.

الديمقراطية التي تطرحها المعارضة هنا هي لترسيخ النهب، ما دامت ديمقراطية محاصصة بين مكونات لا تخلو من طابع طائفي إخواني أو من الأقليات الدينية، ومكونات عرقية، وما أكثرها في سوريا، وتمثيليات مختلقة للثورة، تتصارع فيما بينها على حصص الدعم، قبل أن تصل إلى الحكم، وهو ما ظهر في صراعات الائتلاف السوري المعارض.

إنّ السياسات الاقتصادية القائمة على التنمية، ودعم الإنتاج الوطني، الزراعي خصوصاً، والتوجه نحو بناء اقتصاد صناعي يعتمد على الإنتاج المحلي وليس الاستيراد، وأن تميل كفة الاقتصاد باتجاه تصدير المصنعات الوطنية، هو شرط أساسي لضمان أن تكون الديمقراطية المطروحة كبديل له معنى ثوري تغييري.

الأزمة المعيشية الخانقة التي يعيشها الشعب في مناطق النفوذ، تجعل النظر بحال الشعب أولوية، كنقطة بداية للخروج من حالة الانهيار الاجتماعي والتعفن الأخلاقي التي سادت في الفترة الأخيرة خصوصاً. وهذا يعني أن تتولى الدولة تحديد السياسات الاقتصادية، وألا تترك الأمر للمافيات القادمة، أي حرية السوق.

إن القول بأن حرية الاقتصاد مكنت البرجوازية الوطنية من صناعة اقتصاديات الدول الأوروبية، يفتقد إلى  الدقة، ولا يمكن سحبه على الواقع السوري، ولا على دول العالم المتخلف، لأن برجوازيتنا، مهما تغيرت شخوصها، بالضرورة مرتبطة بالنظام الاقتصادي العالمي، والذي لا يسمح باقتصاد قوي ومنتج في دول المنطقة العربية.

هذا يعني أننا أمام المزيد من التعفن في الفترة القادمة، ببقاء النظام مدة أطول، بفعل التوازنات الدولية للاحتلالات المتواجدة على الأرض، فيما ستحمِل التسوية السياسية التي ستفرضها تلك التوازنات المزيد من تردي الأوضاع العامة، بغياب كتل سياسية واعية، يفرزها الشعب، وتمثّله، وتحمل أفكاراً حقيقة للنهوض بالواقع السوري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.