في العام 2006 تسمر السوريون أمام شاشات التلفزيون في موسم الدراما الرمضاني كل مساء لمتابعة عمل ربما يصنف من الأكثر شعبية بين الأعمال الاجتماعية، وهو “غزلان في غابة الذئاب” الذي جمع الكاتب فؤاد حميرة مع المخرجة رشا هشام شربتجي.

مثّل هذا العمل نقطة فارقة في حياة العديد من العاملين فيه، فكان العمل الذي قدم حميرة ككاتب مهم على ساحة الدراما السورية، وكذلك وضع بطله قصي خولي في مصاف نجوم الصف الأول عبر شخصية سامر الابن الفاسد للمسؤول الشريف الذي لعب دوره الراحل الكبير خالد تاجا.

المسلسل أيضا قدم فرصا استثنائية لـ محمد حداقي وأمل عرفة وديما قندلفت وغزوان الصفدي وأخرين، ليبقى لسنوات مقياسا للنجاح في عالم صناعة التلفزيون في سوريا.

تأثيرات غزلان في غابة الذئاب لم تتوقف فقط على صناعه كأفراد بل امتدت إلى سوق الإنتاج حيث كان العمل أول الإنتاجات التي يمكن تسميتها بـ “دراما المخابرات” ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا تحظى هذه الدراما بشعبية جارفة، ما يجعلها مطلوبة في أكبر منصات العرض العربية.

ما هي دراما المخابرات؟

مصطلح “دراما المخابرات” ليس رسميا ولا علميا، إلا أنه بدأ يشيع في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، في الإشارة للإنتاجات الدرامية التي تتناول شخصيات من المخابرات في سوريا، ويكون أبطالها إما ضباطا أو مسؤولين فاسدين في القيادة.

من هذه الأعمال غير “غزلان في غابة الذئاب” يمكن أن نذكر “الولادة من الخاصرة” و”لعنة الطين” و”العراب” و”دقيقة صمت” وكلها من الأعمال ذات الشعبية الكبيرة في وقت عرضها.

صناع هذه الأعمال يدرجونها تحت تصنيف “دراما إجتماعية” والسؤال في هذه الحالة يكون حول المجتمع، هل مجتمع سوريا وهو عبارة عن ضباط مخابرات وفاسدين ومواطنين يعيشون بين وحشية الأول وسطوة الأخير؟

الإجابة ستكون بنعم من كل الواقفين حتى اليوم في خندق المعارضة السورية، وستكون لا من الجهة المقابلة الواقفة في خندق حكومة دمشق.

هذا النقاش عاد ليفتح اليوم بعد عرض مسلسل “كسر عضم”، الذي واجه انتقادات كبيرة آخرها اتهامه بتشويه صورة الأمن والجيش والمحامين في سوريا مما اضطر صناع العمل في الحلقة 21 لوضع عبارة “أحداث هذا المسلسل من وحي الخيال، وأي تشابه بينها وبين الواقع هو محض الصدفة لا أكثر”.

واقع أم خيال.. لماذا هذه الشعبية؟
بغض النظر أن أحداث هذه المسلسلات تعكس جزء من الواقع، أم أنها خيال، فبالحالتين لا يمكن للمراقب إلا أن يتوقف عند حالة الشعبية التي تحصدها هذه الأعمال، فأي مسلسل يتناول ضابط أو مسؤول فاسد لابد أن يكون في قائمة الأكثر مشاهدة وقت عرضه.

عن هذا السؤال يجيب الكاتب الصحفي مرهف دويدري بالقول: “في الدول القمعية والاستبدادية تحيط بأجهزة المخابرات الكثير من أساطير البطولات من ناحية وحكايا الإجرام والقمع والتصفيات وما تبثه المخابرات من شائعات مختلفة حول أجهزتها لترويع الشعوب لتبقى اليد الأمنية تُمثل مصدر رعب.”

ويضيف خلال حديثه لـ”الحل نت”: “كل هذه الأفكار عن أجهزة المخابرات تجعل معرفة ما يدور وراء أبواب بيوت ومكاتب رؤساء هذه الأجهزة تثير رغبة الجميع”.

الأسباب تختلف وراء هذه الرغبة ويصنفها دويدري بهذا الشكل: “هناك من يريد أن يفهم شخصية هؤلاء المجرمين إلى من يريد تقمص فكرة السلطة لإشباع رغبة ما”.

ويرى دويدري أنه: “على الرغم من سطحية المواضيع التي تُطرح في هذه المسلسلات على اعتبار أن قمة الهرم أناس جيدون وكل أفعال الإجرام هي أفعال شخصية، إلا أن الفضول هو القاسم المشترك لمشاهدة هذه الأعمال”.

من زاوية أخرى يرى الصحفي والكاتب السوري علي سفر أن ما يدفع الناس لمشاهدة هذه الأعمال هو الرغبة بالمطابقة بين ما تصنعه الدراما وبين الواقع الذي عاشه ويعيشه.

ويلفت سفر إلى جانب مهم في صناعة العمل الدرامي بالقول: “الدراما عموما تهدف إلى التسلية، وحتى حين تحمل غايات سامية كتقديم الدروس الأخلاقية، فإن عليها أن تبنى بطريقة مشوقة ومسلية، فإذا أردت أن تستجر الجميع لمشاهدتك عليك أن تقترب من المحظور، أو المسكوت عنه، ببراعة وبعمق مدروس”.

ويضيف خلال حديثه لـ”الحل نت”: “حتى لو اقتربت منه بنسبة منخفضة فإنك تدفع المشاهد صوب إمكانية أن يرى ما يخاف منه، ومن يخاف منهم، على الشاشة، محشورين في خانة الهزيمة والفضح كفاسدين، مع إمكانية أن يتسع فضاء هذه المماحكة ليشمل البعض من رجال الأمن والمخابرات الذين يجب أن يبقوا شرفاء وأخيار، كي لا يتهم صناع الدراما بـ”وهن نفسية الأمة” و “إضعاف الشعور القومي”.

لعبة القط والفأر.. بين التنفيس والتعبير

لم يكن من المستغرب أن أكبر كاتبين لهذا النوع من الدراما وقفوا في مواجهة السلطات في دمشق عند اندلاع الاحتجاجات عام 2011 وهما فؤاد حميرة وسامر رضوان، وواجه الكاتبان على مدار السنوات الماضية السؤال عن طبيعة العمل قبل 2011 في عدة مناسبات، هل هذه الأعمال كانت بهدف التنفيس، أم التفاف على الهوامش الرقابية بهدف التأثير في الرأي العام من قبل صناعها.

آخر الأمثلة التي يمكن تناولها هو مسلسل “دقيقة صمت” لسامر رضوان والذي عرض في موسم رمضان 2019 وصوّر داخل سوريا من قبل شركة “إيبلا” للإنتاج الفني، لكن السلطات في دمشق اتهمت الشركة بالتحايل وقالت أن العمل صور داخل الأراضي السورية وتم تهريبه للعرض الخارجي، نافية مسؤوليتها عن محتوى العمل.

الصحفي علي سفر يرى أن هذه الأعمال لم تلعب دورا في التأثير في الرأي العام قبل 2011 ويقول: “هذه الأعمال كانت دائما أقل وأدنى من السقف، وحتى حين كانت تقترب منه، كان ذلك يحدث وفق إيقاع مضبوط، إذا لم أقل أنه متفق عليه. ولا ننسى أن الدراما عملية إنتاجية تجارية، فمن ذلك الذي يريد أن ينتج ويخسر عبر وضع ماله في أعمال ذات منحى تحريضي؟!”.

انقطع إعطاء الموافقات على تصوير هذه النوع من الأعمال داخل سوريا من 2011 وحتى 2019، ويحضر في موسم 2022 مسلسلان من هذا النوع هما “كسر عضم” و “مع وقف التنفيذ”.

ويبدو في هذه العودة لإنتاج “دراما المخابرات” ثقة بأن هذه الأعمال لا يمكن تترك أثر تحريضي في الشارع السوري المرهق على كافة الأصعدة، لتبقى وظيفة هذه الدراما التنفيس فقط وفق ما يرى سفر: “يعرف هؤلاء أن بضاعتهم بياعة لأن الفضاء العام السوري مازال رهينا لقمع الحريات، ومنع الصحافة الحرة، والرقابة وغير ذلك، ومع قليل من التفاهمات مع أصحاب القرار، ستؤدي هذه الدراما وظيفة تنفيسية”.

ويتابع: “الوظيفة التنفيسية شيء مطلوب من قبل النظام، احتاجها دائما لكي تظهر على شاشاته، وبما يجمل من سياساته. لكن كل شيء محسوب ولا يمكن أن يتجاوز الخطوط المرسومة، وحين يحدث ذلك يتم إيقاف الأعمال وإنزالها عن الشاشة، أو عدم السماح بعرضها منذ البداية”.

ويضيف: “عموما لا أظن أن الدراما يمكن أن تثير الجمهور أو تحرضه، هذا ادعاء كبير. السقف في الدراما السورية كان هو مقاربة بعض الهوامش، ولم تتعدى ذلك، حتى الآن”.

ومع زيادة التعقيدات في المشهد السوري سنة تلو أخرى، لم يبقى هناك من يدافع أن هذه الدراما التي أصبح إنتاجها ربحيا فقط، فالرقابة تقص من مشاهدها، والسلطة تهاجمها وتهددها، وصناعها باتوا مختبئين خلف عبارة “من وحي الخيال”.

أما المشاهدون فهم فقط من يراها غيض من فيض ما يعيشونه في سوريا، لتكون هذه الأعمال واقعاً من محض خيال المشاهد، أو خيالاً من محض واقعه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة