تعتبر إجراءات البنك الفيدرالي الأميركي برفع سعر الفائدة أحد أهم الأحداث الاقتصادية العالمية، التي ستكون لها انعكاسات كبيرة على مختلف الدول. فخلال العام الحالي، ونتيجة التضخم الذي حصل على المستوى العالمي، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها وباء كورونا، ثم الغزو الروسي لأوكرانيا، عمد البنك الفيدرالي الأميركي إلى محاربة التضخم عبر عدة إجراءات، على رأسها رفع سعر الفائدة، ابتداء من آذار/مارس الفائت، وصولا إلى الزيادة الأخيرة في الـخامس من أيار/مايو الجاري، التي رفع الفيدرالي بموجبها سعر الفائدة نصف نقطة مئوية، إلى نطاق يتراوح بين 0.75 بالمئة و 1 بالمئة.

إجراءات البنك الفيدرالي الأميركي جاءت بعد أن سجل التضخم في الولايات المتحدة أعلى ارتفاع له في أربعين عاما، ومن المتوقع أن يواصل التضخم الارتفاع مستقبلا، وأن يتفاقم الوضع بسبب التسارع في ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة.


ويتوقع المختصون بالاقتصاد أن يؤدي رفع سعر الفائدة في أميركا إلى نتائج كبيرة، ستؤثر على أغلب الاقتصادات العالمية. وسيكون التأثير أكبر على الاقتصادات الناشئة والنامية، المثقلة بالديون. وبالتالي فإن الاقتصاد السوري، الذي أنهكته الحرب والعقوبات، سيواجه مزيدا من الظروف القاسية. فهل سينجو ويتكيف في ظل متغيرات اقتصادية عالمية غير مسبوقة؟

ماذا يحدث في أميركا؟

“الهبوط الناعم” مصطلح شائع بين الاقتصاديين، ومعناه باختصار أن البنوك المركزية تحاول السيطرة على التضخم المرتفع من خلال رفع أسعار الفائدة، لتجنب دخول الاقتصاد في حالة ركود. ومن خلال هذه السياسة تسعى البنوك المركزية، ومن ضمنها حاليا البنك الفيدرالي الأميركي، للعمل على تحقيق تباطؤ دوري في النمو الاقتصادي، ليتجنب الركود دون التسبب في انكماش حاد، وهذا بدوره يؤدي أيضا إلى تباطؤ تدريجي، وغير مؤلم نسبيا، في صناعات أو قطاعات اقتصادية معينة.

جيروم باول، الرئيس الحالي للبنك الفيدرالي الأميركي، قال، في تصريحات سابقة، إن “الفيدرالي يواجه مهمة صعبة”. مبينا أن “سياسة الهبوط الناعم، الذي يتبعها الآن، ربما لن تكون سلسة”. في حين أشارت جانيت يالين، وزيرة الخزانة الأميركية، إلى أن “خطر الفشل في إجراءات البنك الفيدرالي واردة، والموضوع يتطلب مهارة، وأيضا حظا سعيدا”. في إشارة إلى العوامل الخارجة عن قدرة الفيدرالي.

وبعد رفع سعر الفائدة، حدد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سوق العمل هدفا أساسيا لسياسته، وبحسب الخبير الاقتصادي أشرف إبراهيم، فإن “الشركات الأميركية طلبت، منذ بداية العام الحالي، ملايينا من العمال لإشغال وظائف جديدة، ما أدى لخفض معدل البطالة إلى حوالي 3.6 بالمئة فقط”.

ولهذا السبب، وفقا لإبراهيم في حديثه لـ”الحل نت”، فإن “رهان البنك الفيدرالي هو الحد من طلبات التوظيف، مما يجبر أصحاب الأعمال على إلغاء الوظائف المطلوبة، بدلا من تسريح الموظفين الحاليين، وبالتالي يؤدي إلى بقاء معدل البطالة ثابتا دون زيادة، وعليه تتحقق نتائج سياسة الهبوط الناعم”.

ويبين الخبير الاقتصادي أن “مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد جرب مرة واحدة، على مدار الثمانين عاما الماضية، زيادة أسعار الفائدة بهذا الشكل، لإبطاء سرعة الاقتصاد، دون التسبب بحدوث انكماش، وكانت محاولة ناجحة”.

لماذا الاقتصاديات الناشئة في خطر بسبب إجراءات البنك الفيدرالي؟

ومع إصرار البنك الفيدرالي الأميركي على تنفيذ إجراءاته لكبح معدل التضخم مهما كانت العواقب، ومنها دخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود، فإن الاقتصاد العالمي سيمر في النفق المظلم نفسه، الذي سيمر به الاقتصاد الأميركي، وهو ما سيؤثر سلبا على الدول النامية، لأن هنالك موجة قادمة من ارتفاعات الأسعار، لا سيما أسعار الدولار، وأسعار شحن البضائع. ما قد يهدد بضربة كبرى للاقتصاديات النامية، ربما تؤدي إلى مجاعة.

الخبير الاقتصادي ماجد الحمصي يؤكد  لـ”الحل نت” أن “قدرة الاقتصادات الناشئة على الصمود في وجه ارتفاع أسعار الفائدة ضئيل جدا، ففي ظل هذه الظروف من الواضح أن إجراءات البنك الفيدرالي الأميركي ستؤدي إلى زيادة القيمة الفعلية لديون الدول النامية؛ كما أنها سترفع أسعار الفائدة في هذه الدول نفسها، مما سيزيد من تكاليف خدمة الديون بالعملة المحلية، ويحد من إمكانيات إعادة تمويل الديون، بظروف يمكن تحملها عند استحقاقها”.

ويضيف الحمصي: “لا ينبغي أن نضع جميع البلدان الناشئة في السلة نفسها. فعلى سبيل المثال، تعد الزيادة الكبيرة في ديون الصين والشركات التركية أكثر مدعاة للقلق. ويمكن أن تصبح شركات السلع الأساسية، التي انخفض دخلها بالدولار، بسبب انخفاض أسعار مبيعاتها، مصدرا رئيسيا للخطر”.

مقالات قد تهمك: روسيا: رفع أمريكا أسعار الفائدة لايشكل خطر على اقتصادنا

خطر المجاعة بعد إجراءات البنك الفيدرالي الأميركي

في ظل هذه الأزمة العالمية، التي ستؤدي إليها إجراءات البنك الفيدرالي الأميركي، يبقى السؤال الأبرز: كيف سينجو الاقتصاد السوري؟ إذ إن تأثير الأزمة الاقتصادية في العالم سينعكس حتما على الأسر في سوريا، لا سيما وأن الحرب في أوكرانيا، وخطط البنوك المركزية لمحاربة التضخم، ستفاقم الكساد الاقتصادي في البلاد، كما أنها ستؤجل تحويل المساعدات الدولية المخصصة للسوريين.

وفقا للبيانات الجديدة، التي صدرت في التقرير العالمي عن أزمات الغذاء لعام 2022، فإن ما يقرب من 193 مليون شخص في 53 دولة في العالم يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل حاد، مما يعني أن حياتهم أو سبل عيشهم في خطر. إذ  ارتفع عدد الأشخاص، الذين يكافحون من أجل البقاء في أزمة الغذاء، بنسبة ثمانين بالمئة، ومن بينهم السوريون، وذلك منذ صدور التقرير العالمي عن أزمات الغذاء لأول مرة عام 2016.

ماجد الحمصي يقول إن “تلازم الغزو الروسي لأوكرانيا مع إجراءات البنك الفيدرالي الأميركي وجه ضربة جديدة لقدرة سوريا على إطعام نفسها، في الوقت الذي تكافح فيه البلاد للتعامل مع مستويات الجوع، التي ارتفعت إلى النصف منذ عام 2019”.

وأشار الحمصي إلى أنه “بعد سنوات من الصراع والانكماش الاقتصادي الحاد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بلا هوادة، تعيش سوريا سيناريو مقلقا للأمن الغذائي. ففي آذار/مارس الفائت ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة أربعة وعشرين بالمئة في شهر واحد فقط، بعد زيادة بنسبة ثمانمئة بالمئة في العامين الماضيين. وقد أدى ذلك إلى وصول أسعار المواد الغذائية إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2013”.

وعليه، يؤكد الخبير الاقتصادي أن “القول إن الأوضاع في سوريا مقلقة هو توصيف أقل من الواقع. فالحقيقة المفجعة لملايين العائلات السورية هي أنها لا تعرف من أين ستأتي بوجبتها التالية، في حين أن الحكومة السورية لا تدرك أن عدم اتخاذ إجراءات فورية سيؤدي حتما إلى مستقبل كارثي للسوريين”.

أرقام مفجعة عن سوريا

مع قرب انتهاء النصف الأول من عام 2022 يواجه حوالي اثني عشر مليون شخص في سوريا، أي أكثر من نصف السكان، انعداما حادا في الأمن الغذائي، وهذا يزيد بنسبة واحد وخمسين بالمئة عن عام 2019. وهناك 1.9 مليون شخص آخر معرضون لخطر الانزلاق إلى الجوع، مع تحول الوجبات الأساسية إلى رفاهية.

وأظهرت بيانات عام 2021 أن واحدا من كل ثمانية أطفال في سوريا يعاني من التقزم، بينما تظهر التقارير الأممية أن الأمهات الحوامل والمرضعات في مستويات قياسية من الهزال الحاد. وتشير كلتا الحقيقتان إلى عواقب صحية مدمرة ستصيب للأجيال القادمة، وربما ستؤدي إجراءات البنك الفيدرالي الأميركي إلى تفاقمها.

ونتيجة لذلك استنفدت العائلات السورية، التي ابتليت بالأزمات المستمرة لأكثر من عقد من الزمان، قدرتها على التكيف، فيتجه الناس إلى تدابير تتجاوز القوانين المحلية والدولية، مثل عمالة الأطفال، والزواج المبكر والقسري، وإبعاد الأطفال من المدرسة.

وبسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وإجراءات البنك الفيدرالي الأميركي فإن موارد برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، تتعرض لضغوط أكثر من أي وقت مضى، والتمويل لا يواكب الاحتياجات الهائلة للناس في سوريا.

وبمرور الوقت اضطر برنامج الأغذية العالمي إلى تقليص حجم الحصة الغذائية الشهرية بشكل تدريجي في جميع أنحاء سوريا. كما خفض الحصص الغذائية بنسبة ثلاثة عشر بالمئة، خلال شهر أيار/مايو الجاري، وسيبدأ  المستفيدون من المعونات بتلقي طعام يحتوي على 1177 سعرة حرارية فقط، أي ما يزيد قليلا عن نصف الاستهلاك اليومي الموصى به. بحسب بيانات الأمم المتحدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.