يتصدّر موضوع الطائفية والأسلمة مجدّداً ساحات النقاش السوري؛ هذه المرة أثاره الصحفي السوري إياد شربجي، حين اعترف في قناته على يوتيوب، بشيء من الندم، بتغاضيه وتستره على الشعارات الإسلامية في بداية الثورة، وفعل الشيء نفسه من قبل، كثرٌ من الناشطين اليساريين والعلمانيين، بعد أن سيطر الإسلاميون على كل ساحات الثورة، ورفعوا راياتهم الخاصة، بالقول إن الخروج في مظاهرات تحت أسماء جمع إسلامية كان خطأً فادحاً.

في عجالة هذا المقال أقدم وجهة نظري حول الموضوع، دون الخوض في ردود الأفعال حول ما قاله شربجي، واستغلال النظام والمعارضة له؛ بل سأناقش إشكالية الرؤية الإستشراقية الغربية للشعب السوري، وشعوب المنطقة عموماً، والتي تأثر بها الناشطون “النادمون” على قبول الأشكال الأولى للأسلمة في الثورة؛ وأن الطائفية جاءت رداً طبيعياً على ممارسات النظام الطائفية، وأن قبول التنظيمات الإسلامية جاء استجابة لطبيعة الشعب المتدين والمسلم.

هذه الرؤية تتناسى الدور الأساسي للإسلاميين، المدعوم والممول بسخاء من دول عربية، لتعميم رؤيتهم الطائفية للصراع، والسيطرة على سلوك المعارضة، وعلى التمويل خصوصاً، وعلى الإعلام ووسائل التواصل، وعلى التسليح والمناطق المحررة من النظام، وصولاً إلى تطبيق حكمهم الخاص على شكل إمارات أكثر ديكتاتورية وفساداً من النظام، وتابعة لإرادات الممولين والداعمين، وعملت من البداية في تناغم مع ما يريده النظام من تطييف وأسلمة، وصولاً إلى وصم الثورة بالإرهاب. فالنظام اتهم الثوار بالتكفيريين والسلفيين والإخوانيين، وأخرج من سجونه، بمرسومي عفو في 2011 و2012، أربعة جهاديين، أصبحوا لاحقاً قادة فصائل إسلامية بارزة، وهم أبو محمد الجولاني قائد جبهة النصرة، وزهران علوش مؤسس سرية الإسلام/ لواء الإسلام التي أصبحت جيش الإسلام، وأبو جابر عيسى الشيخ مؤسس صقور الشام، وحسان عبود مؤسس أحرار الشام، وجميعهم كانوا في سجن صيدنايا وأسس ثلاثة منهم “دولة صيدنايا الإسلامية” في المعتقل.

هنا لا أنكر أن الشعب الذي ثار مخلّف وليس له تجارب ثورية وسياسية، وهو ليس في أرقى حالاته عندما ثار؛ لكنّه كأي شعب يطمح إلى حياة أفضل، أدرك في بداية الثورة أن الطائفية فخٌ، ورفع شعار “الشعب السوري واحد” رداً على استفزازات النظام الطائفية، فيما كان شعار “لا سلفية ولا إخوان” دليلاً على أن الأسلمة ليست هدفه.

الشعب لم يختر مسار الأسلمة والطائفية، بل العكس؛ سيطرت الفصائل الإسلامية حين أُبعد الشعب عن الثورة، أي حين انتقل دور الجيش الحر من حماية المظاهرات السلمية إلى تبني خيار العمل المسلح على نطاق واسع، أي بعد الستة أشهر الأولى للثورة. وهذا حصل بدفع من المعارضة في الخارج، والتي اعتقدت أن دول العالم مهتمة بمساعدة السوريين لإسقاط النظام؛ وقدمت دول عربية الدعم للفصائل، مشروطاً بسيادة الفصائل الإسلامية، على حساب الجيش الحر، والذي بدوره لم يكن منظماً، ووقع في فخّ التشكل على أساس مناطقي وعائلي، ولم يقدم ناشطو الثورة والمعارضة بنية تنظيمية لقيادة العمل الثوري، بما فيه المسلح، بل العكس، تمت سيطرة المعارضة على الأشكال التنظيمية الأولى كالتنسيقيات، وإخضاعها إلى رؤية المعارضة حول استجداء التدخل الخارجي لإسقاط النظام، بدلاً من العمل على تطويرها وتوحيدها جدياً، ومركزة العمل الثوري في الداخل.

ما أود قوله أن غالبية المناطق التي خرجت ضد النظام كانت متخلفة صحيح، وبطبيعة متدينة مسلمة، لكنها أيضاً تتعرض للقتل والتنكيل العنيف، ولم تكن في وضع يسمح لها بنقاش قضية الفصل بين التدين الطبيعي ومشاريع الإسلام السياسي، ولأنها بغالبية سنية لم يكن لديها فوبيا من الأسلمة كما باقي الأقليات، وباتت تريد أن تنجو من القتل بأية وسيلة، لذلك استجابت لبعض الشعارات الدينية التي طرحها الإسلاميون لاحقاً.

الشعب الذي يقطن المناطق “المحررة” يعاني من ظلم وإفقار وفساد وديكتاتورية، بل ونفاق، الإسلاميين؛ ولا يملك حق التعبير عن رفضه لهم، بالضبط كما هو حال مناطق سيطرة النظام؛ لكنه أيضاً، خبر حكم الإسلام السياسي، وسلوك الإخوانيين منهم، وليس القمع وحده ما يمنع رفض هؤلاء، بل أيضاً غياب البدائل لدى المعارضة، ولدى النخب السورية عموماً، وهذه مشكلة كبرى تخصّ السوريين.

هذه الصورة الثنائية، النظام مقابل الإرهاب السني، عمل النظام نفسه على تسويقها، وساعدته دول عربية وتركيا وإيران، وهي تتفق مع الرؤية الغربية لشعوب المنطقة، وفي إبقاء هذه الشعوب متخلفة.

أجاد النظام استغلال الحساسيات الطائفية لكسب التأييد، خاصة بتخويف الأقليات الدينية من الثورة السنية، وهذا صحيح، لكن الإسلاميين أيضاً ساعدوه في هذا التخويف.

لا تملك الأقليات الدينية والطائفية، عدا الشيعة، مشاريع سياسية للسيطرة، فلا يوجد مشاريع من قبيل نشر العلوية أو المسيحية أو الدرزية أو الإسماعيلية، بل هي أقليات منغلقة على نفسها دينياً، ويشكل الدين لديها جانباً روحياً، وبالتالي هي تميل إلى العلمانية في السياسة.

النظام لم يكن علمانياً في جوهره، بل اشتغل على الطائفية لكسب تأييد الأقليات في لحظة الثورة، وأجج الطائفية لديها بشكلها القائم على الخوف من الأكثرية السنية.

 المعارضة الليبرالية واليسارية عموماً، لم تعمل على تفكيك هذه الإشكالية لدى الأقليات، ولا نقاشها حتى، بل تماهت مع المشاريع الإسلامية ودافعت عنها، دون الفصل بين هذه المشاريع وبين التدين الطبيعي للمسلمين السوريين.

اليوم في لحظات انهيار السوريين كشعب، وتهجير نصفهم، وقتل واعتقال مئات الآلاف، وتقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ، دون انتصار أي طرف، وجد السوريون أنفسهم أمام اختبار البحث عن الهوية، وهذا عزز أكثر العودة إلى الهويات الدينية والطائفية، والتمسك بالهوية الإسلامية، والذي ظهر بأشكال متطرفة في دول اللجوء، وتعيق الاندماج المجتمعي.

ورغم ذلك، لم يأخذ الصراع على أرض الواقع صبغة طائفية فعلاً بين السوريين، فيما استُجلِبت المليشيات الشيعية المدعومة من إيران من خارج سورية، وكذلك غالبية قادة جبهة النصرة غرباء عن المنطقة التي يحكمونها، ومنهم الكثير من غير السوريين، و داعش بمعظمها ليست من السوريين، فيما الإسلاميون الذي يحكمون في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، ليسوا سوى مرتزقة و شبيحة فاسدين، صنعتهم تركيا ويدورون في فلك أجندتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.