في الثالث من نيسان/أبريل 2019، أصدرت وزارة الاتصالات السورية قرارا بتعديل رسوم التصريح الرسمي (أجور الجمارك) على كافة الهواتف الذكية، التي تدخل الأراضي السورية بعد صدور القرار، لتضيف بذلك على أسعار الأجهزة رسوما محددة، وفق الشريحة التي ينتمي إليها كل جهاز.

وكانت الوزارة قد قسّمت الأجهزة الذكية إلى أربع شرائح: أولى وثانية وثالثة ورابعة، دون تحديد واضح للمعايير المتبعة لإدراج كل جهاز ضمن شريحته. إلا أن ذلك تغير مطلع هذا العام، وأصبح تحديد الرسوم بناء على كل جهاز على حدة. وفي حال لم يتم دفع الرسوم، لن يعمل الجهاز على أي من المزوّدين المحليين للشبكة الخلوية، سيريتل و MTN. ولا يشترط أن يكون الجهاز جديدا ليُلزم المستخدم بدفع تلك المبالغ. فعلى سبيل المثال، إذا أردتَ زيارة سوريا لمدة شهر، لن تستطيع استخدام الشبكات المحلية على هاتفك، دون دفع أجور التصريح.

مفارقات وتناقضات

بالطبع، فإن فرض رسوم جمركية على السلع، التي تدخل أراضي الدولة، هو حق مشروع لحكومة هذه الدولة أيا كانت، لكن الحال يختلف قليلا في الشأن السوري. إذ توجد عديد من المفارقات، التي تجعل من الأمر مادة للتحليل والنظر، فيما هو أبعد من الرسوم الجمركية وتطبيق القانون.

المفارقة الأولى هي المبالغ المفروضة، بارتفاعها وعدم وضوحها. فعند صدور أول لائحة لرسوم التصريح الإفرادي عن الهواتف الذكية، من قبل الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد، تم تحديد التكاليف وفقا لما يلي:

  • الشريحة الأولى: 20.000 ليرة سورية
  • الشريحة الثانية: 45.000 ليرة سورية
  • الشريحة الثالثة: 80.000 ليرة سورية
  • الشريحة الرابعة: 100.000 ليرة سورية

علما أن قيمة الدولار الأمريكي حينها كانت تبلغ قرابة الـ 1000 ليرة سورية.

لكن بعدها، وفي شهر حزيران/يونيو 2020، عادت الهيئة نفسها ورفعت تلك الرسوم بمقدار يزيد قليلا عن الضعفين، لتصبح 65.000 ألف ليرة سورية للشريحة الأولى، 110.000 ألف ليرة سورية للشريحة الثانية، 200.000 ليرة سورية للشريحة الثالثة، و 250.000 ليرة سورية للشريحة الرابعة.

ولم يقف الأمر هنا، ففي شهر آب/أغسطس 2021 ألغت الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد نظام الشرائح لتحديد الرسوم، وأصبحت تكاليف جمركة كل جهاز تحدد “بناء على السعر الرائج عالميا، الذي يحدد عن طريق منظومة خاصة بتحديد الأسعار، ويتم بعدها حساب القيمة الجمركية، وبالتالي لم تبق هناك أربع شرائح للتصريح عن الأجهزة، بل أصبحت هناك مئات الشرائح، تعتمد على نوع الجهاز والمواصفات الفنية والطرازات”، بحسب وائل سابا، مدير مديرية الشؤون الفنية في الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد.

ورغم الادعاء بأن هناك “منظومة” تحدد القيمة الجمركية، بناء على ثمن كل جهاز، إلا أن ذلك لا يمت للواقع بصلة، إذ بلغت بعض التعريفات (التي سنذكر أمثلة عنها) ما يزيد عن ثمن الجهاز نفسه، وهو ما يخالف أي قانون جمركي حول العالم. التفسير الأقرب للواقع هو أن القرار بني على مغالطة منطقية، تقتضي بأن من يملك ثمن هاتف ما، فهو بالتأكيد يمتلك أجور ترخيصه.

لنستعرض بعض الرسوم التي أقرتها الهيئة لبعض الهواتف الذكية الشائعة من مختلف الفئات. (ويمكن الاستعلام عن رسوم التصريح لأية جهاز من خلال طلب رمز USSD *134# على الجهاز المراد الاستعلام عنه):

  • أجور التصريح لهاتف Samsung Galaxy A52s، الذي يبلغ متوسط سعره العالمي 379 دولار، هي 1.420.000 ليرة سورية (أي 370 دولار)
  • أجور التصريح لهاتف Samsung Galaxy Note 20 Ultra، الذي يبلغ متوسط سعره العالمي 1300دولار، هي 3.400.000 ليرة سورية (أي 871 دولار)
  • أجور التصريح لهاتف iPhone 8، الذي توقفت شركة آبل عن إنتاجه، لكن يبلغ متوسط سعره العالمي 170دولار، هي 1.600.000 ليرة سورية (أي 410 دولار)
  • أما أجور التصريح لهاتف iPhone 13 Pro Max، الذي يبلغ متوسط سعره العالمي 1300دولار، هي 9.800.000 ليرة سورية (أي 2500دولار).

بالتأكيد، لا يحتاج الأمر تحليلا تفصيليا، أو إدراج الكثير من المصطلحات الاقتصادية، للوصول إلى نتيجة بديهية، هي أن من حدد هذه الأرقام الاعتباطية لا يضع تطبيق القوانين الجمركية على قائمة أولوياته، بل وجد في العقوبات الغربية على سوريا، وتضييق الخناق على السوق، وقلة المستوردين، فرصة لجني الأرباح، على شكل أتاوات وضعت في إطار قانوني.

وقد يلعب أحدهم دور “محامي الشيطان”، ويدّعي بأن الأزمات الاقتصادية تقتضي ارتفاعا برسوم الجمارك على السلع، التي تجد طريقها إلى سوق مختنق، وهذا ليس بعيدا كثيرا عن الحقيقة، لكن بالطبع ليس عندما تتجاوز تلك الرسوم أسعار السلع نفسها، وربما بأضعاف!

لنأخذ على سبيل المثال الجارة لبنان، التي يستشري الفساد في مؤسساتها كما في سوريا، وتعاني من أزمة اقتصادية لا تقل سوءا، إذ تم إعلان إفلاس الدولة والبنك المركزي الشهر المنصرم. وتتبّع لبنان سياسة مشابهة لجمركة الأجهزة الذكية التي تدخل أراضيها، إلا أن عملية التسعير تقوم بالفعل على أسس مبيّنة من قبل هيئة الجمارك، وبنسب محددة لكل سلعة (5 بالمئة للرسم الجمركي الموحّد إضافة لـ 11 بالمئة ضريبة على القيمة المضافة).

كما توفر الهيئة منصة إلكترونية، يستطيع المستخدم من خلالها معرفة الرسوم التي سيترتب عليه دفعها على كل سلعة. وقد قمنا باختبار هذه المنصة بأنفسنا على الهواتف الأربعة ذاتها المذكورة أعلاه، لمعرفة الفرق. واتضح ما يلي:

  • أجور التصريح لهاتف Samsung Galaxy A52s، الذي يبلغ متوسط سعره العالمي 379دولار، هي 61 دولار.
  • أجور التصريح لهاتف Samsung Galaxy Note 20 Ultra، الذي يبلغ متوسط سعره العالمي 1300دولار، هي 208 دولار.
  • أجور التصريح لهاتف iPhone 8، الذي يبلغ متوسط سعره العالمي 170 دولار، هي 27 دولار.
  • أجور التصريح لهاتف iPhone 13 Pro Max، الذي يبلغ متوسط سعره العالمي 1300دولار، هي 208 دولار.

الأرقام تتحدث وحدها. وقد يكون من الساخر أن يضرب المثل بالجمارك اللبنانية، التي تتبوأ مرتبة عالية على مؤشر الفساد، لكنها تبدو ناصعة البياض أمام نظيرتها إلى الشرق!

وجود رسمي رغم الحظر الرسمي

الأمر الأكثر إثارة للسخرية ليس الأرقام الجنونية، التي تطلبها الدولة السورية للحصول على تصريح لعمل الجهاز على الشبكات الخلوية المحلية فحسب، بل خُلّبية التشريعات التي تصدرها. ففي الرابع والعشرين من آذار/مارس 2021، علّقت وزارة الاقتصاد السورية استيراد أجهزة الهواتف المحمولة “حتى إشعار آخر”، على اعتبارها واحدة من المواد التي تعتبر من الكماليات، ويمكن الاستغناء عنها لعدة أشهر. في خطوة بررتها الهيئة الناظمة للاتصالات بـ”منح الأولوية لاستيراد مواد أساسية”، وسط شح الدولار وتدهور الليرة.

لكن، ومنذ صدور ذاك القرار وحتى اليوم، هناك من تمكن من توفير مختلف الهواتف الذكية الحديثة، التي صدرت بعده. والحديث هنا ليس عن أحد الأفراد أو المهربين، بل عن شركة تدعى “إيماتيل”، وهي شركة رسمية مسجلة ومرخصة في سوريا، لديها عشر صالات كبرى، موزعة في مختلف المحافظات، وأكثر من عشرين وكيلا رسميا.

وبحسب الظاهر، فإن الشركة لا تخرق أي قانون، بل تزداد ازدهارا، وتوسع دائرة المنتجات “محظورة الاستيراد” لديها يوما بعد يوم. كما أن الشركة كانت أول شركة في الشرق الأوسط توفر جهاز iPhone 12 في المنطقة بعد طرحه بأيام، رغم إدراجها في قائمة عقوبات قيصر.

شركة إيماتيل هي شركة خاصة ظاهريا، لكن ملكية مئة بالمئة من أسهمها تعود إلى خضر الطاهر، المعروف محليا بلقب “أبو علي خضر”، أمير الحرب الجديد، الذي يعد الذراع الاقتصادية لسيدة دمشق الأولى أسماء الأسد، والذي يبدو أنه فر من البلاد قبل “انتهاء صلاحيته” لدى الدولة، مستفيدا من العبرة التي حملها درس رامي مخلوف، ابن خال الأسد، الذي حُجر عليه وعلى أملاكه بين ليلة وضحاها.

مقالات قد تهمك: نفوذ أسماء الأسد من قطاع الاتصالات إلى أين؟

مكاسب حكومية

كل ما سبق، من مبالغ تصريحٍ فلكية وصلاحيات استيراد مخصصة، يقود إلى نتيجة حتمية: إفلاس حكومي، ومحاولات سده بطرق ملتوية، ولم يمض وقت طويل حتى آتى ذلك ثماره، إذ أعلنت الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد مطلع هذا العام، أرباحا بالمليارات لعائدات رسوم الجمارك على الموبايلات، وذلك في بيان وصف بالاستفزازي، وأثار جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي.

وقالت الهيئة إنه “وبعد مرور حوالي ستة أشهر على استئناف العمل بمنظومة التصريح عن الأجهزة الخليوية وفق الآلية الجديدة، تبين للهيئة أن المنظومة الجديدة تعمل بشكل مؤتمت، يعتمد على السعر الحقيقي للموبايل وفق سعر المصنع، بوصفه أساسا لتحديد أجور التصريح العائدة لخزينة الدولة”.

وذكرت أن “ازدياد إيرادات الخزينة العامة للدولة جاء نتيجة استيفاء الرسوم والأجور وفق الآلية الجديدة، إذ بلغت الإيرادات الإجمالية للخزينة المركزية نحو 89 مليار ليرة سورية (حوالي 26 مليون دولار أمريكي حينها)، لقرابة سبعة ملايين جهاز خلوي تم إدخالها إلى السوق السورية، من عام 2016 وحتى تاريخ 18/3/2021″، وفق تعبيرها.

فيما “تم تحقيق إيرادات إجمالية للخزينة المركزية للدولة تعادل حوالي 92 مليار ليرة سورية (حوالي 27 مليار دولار أمريكي حينها) لنحو أربعمئة ألف جهاز خلوي، وفق آلية التصريح الجديدة، بناء على السعر الحقيقي للأجهزة الخلوية، من 14/8/2021 ولغاية نهاية كانون الثاني 2022″، حسب تقديرات وزارة الاتصالات والتقانة.

وعلى الرغم من ارتفاع هذه الأرقام، التي يبدو أنها أرضت جانيها، إلا أن هذا السلوك بذاته قد يمنع لاحقا دخول الأجهزة إلى البلاد، وبالتالي انخفاض وارداتها، ما يعني عدم استدامة هذا النهج. فبحسب شهادة إحداهن، التي حصلت على هاتف iPhone 13 من خارج البلاد، أعادت الهاتف عندما علمت عن تكاليف التصريح اللازمة لتشغيله على الشبكة المحلية، ليس لأنها لا تستطيع دفع التكاليف، بل لأن فكرة دفع ضعف ثمن الهاتف لترخيصه لم ترق لها، كما يُتوقع من أي شخص طبيعي.

حلول بديلة

إن هذه التشريعات، التي أدت إلى تضاعف أسعار الهواتف الذكية، نقلت امتلاك المواطن السوري لهاتف ذكي جيد من حلم صعب إلى مستحيل، على اعتبار أن متوسط دخل موظف القطاع العام يبلغ 100.000 ليرة سورية (25 دولار)، ومتوسط دخل موظف القطاع الخاص يبلغ 400.000 ليرة سورية (102 دولار).

وبما أن الحاجة أم الاختراع، برزت طريقتان للالتفاف على دفع هذه الرسوم الباهظة، إلا أن كلاهما غير مستدام.

الأولى: هي اعتماد حيلةٍ قديمة، تعمل على الأجهزة المتوسطة العاملة بنظام أندرويد حصرا، والتي تتطلب صلاحيات الجذر (Root). وهي إدراج رقم (IMEI) جديد “الهوية الدولية لمعدات الموبايل” للهاتف، ويكون المعرّف الجديد إما مدرجا على لائحة الأرقام المرخصة، ما يؤدي إلى كشفه لاحقا والعودة إلى نقطة الصفر. أو يعود إلى جهاز رخيص الثمن، وبالتالي يخفض على صاحبه تكاليف الترخيص، لكن هذه الحيلة نادرا ما تعمل.

أما الطريقة الثانية، الأكثر أمانا، والتي اتبعها عدد كبير من السوريين، هي إبقاء الهاتف الذكي غير مرخص، والاعتماد على هاتف قديم كلاسيكي لإجراء المكالمات، وتبادل رسائل SMS. ورغم المخاطر القليلة التي تحملها هذه الطريقة، سواء من الناحية القانونية أو السيبرانية، إلا أنها بدورها فتحت المجال أمام حيتان السوق السوداء، لاحتكار الأجهزة الكلاسيكية، والمبالغة في أسعارها، بالنظر إلى أن جميعها مستعملة، ولم تعد الشركات الأم تنتجها.

على سبيل المثال، بلغ ثمن هاتف Nokia 3610 التقليدي 573.000 ليرة سورية (150 دولار)، وتراوحت أسعار الأجهزة القرينة له حول النطاق نفسه. وهو مبلغ يشكل عبئا بدوره على معظم السوريين.

هل يستحق الأمر كل ذلك؟

ليس هناك تشريعات تنص على مصادرة الهاتف إن كان غير مرخصا للعمل على الشبكات الخلوية المحلية، أو تعتبر حيازته بحد ذاتها فعل غير قانوني، بل كل ما في الأمر هو أن على المستخدم دفع كل هذه الرسوم للاستفادة من خدمات مشغلي الخليوي سيريتل و MTN.
ولكن نظرا للواقع الكهربائي الذي تعاني منه البلاد، والذي يتمثل بساعات قطعٍ للتيار تصل إلى عشرين ساعة في اليوم في بعض المناطق، تعتمد الأبراج المزودة لخدمات الاتصال، العائدة لهاتين الشركتين، على البطاريات الخارجية، والتي بدورها تواجه مشكلتين أساسيتين: أولاهما أنها لم تصنع لتكون مصدر الطاقة الرئيسي الذي يغذي هذه الأبراج، بل البديل عند الطوارئ، ما يؤدي إلى تلفها بسرعة؛ وثانيهما حوادث السرقة المتكررة.
تجعل هذه العوامل إجراء مكالمة واضحة الصوت أمرا أشبه بالمستحيل، والحصول على سرعة اتصال بشبكة الجيل الرابع، تفوق الـخمسة ميجابِت في الثانية ضربا من الخيال. ورغم رفع أجور الاتصالات نهاية عام 2021 بغية “تحسين جودة الخدمات”، بحسب وزارة الاتصالات، إلا أن الحال بقي كما هو.
وعليه، فإن إبقاء الهاتف عاملا على كافة مزودي خدمات الاتصال حول العالم، عدا أسوأ اثنين، والاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، ما استطاع السوري إليها سبيلا، يبقى الخيار الأمثل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.