كثرت التقارير منذ مطلع الشهر الجاري، التي تتحدث عن خفض روسيا عدد قواتها العسكرية في سوريا لتعزيز جبهتها القتالية في أوكرانيا، تزامنا مع التقدم البطيء على الجبهة التي فتحتها موسكو منذ 24 شباط/فبراير الفائت، لكن وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون”، أكدت مؤخرا، أن القوات الروسية بدأت منذ أسابيع عدة تنفيذ انسحاب تدريجي لقواتها من مناطق متفرقة في سوريا، وتحديدا من قاعدة “حميميم” في اللاذقية، وأن عمليات الانسحاب تشمل آلافا من وحدات المشاة وسلاحي الطيران والهندسة.

المعلومات الجديدة عن الانسحاب التدريجي للقوات الروسية من سوريا، تكشف مدى احتمالية تعرض موسكو لضربة قاسية في سوريا بعد أن فتحت موسكو جبهة أوكرانيا وغرقت فيها، وبالتالي فإن هذا الإجراء الذي لم يكن في حسابات موسكو قبل تخطيطها لغزو أوكرانيا، سيؤدي إلى ضعف الحضور الروسي خلال الفترة المقبلة داخل الملف السوري. لكن ما احتمال أن يؤثر على ضعف الرؤية الروسية في سوريا.

لماذا انسحب الروس من سوريا؟

من المعلوم، أن قدرة دمشق على استعادة سلطة غير مقسمة في سوريا تعتمد على الدعم المستمر من حلفائها، ولمنع الانهيار الكلي للسلطة الحالية، تلعب روسيا وإيران دورا محوريا في ذلك، ولكن تشتت انتباه روسيا في أوكرانيا له العديد من التداعيات على الوضع الحالي في سوريا، سواء على المستوى العسكري أو الأمني أو السياسي.

منذ آذار/مارس 2020، دخل الصراع في سوريا مرحلة جديدة من الجمود مع ترسيم حدود ثلاث مناطق مميزة ذات خطوط مواجهة ثابتة، وبرأي المحلل العسكري، العقيد عبد الله حلاوة، فإن هذه الاتفاقية ربما ينفرط عقدها، بسبب الانسحاب الكبير لروسيا من سوريا، وهذا عائد لعدة أسباب.

وبحسب حديث حلاوة لـ”الحل نت”، فإن الإنفاق العسكري الروسي الكبير بين عامي 2008 و2021، ارتفع إلى أكثر من 250 مليار دولار، أي حوالي ثلاثة أضعاف مستوى بريطانيا أو فرنسا لتحديث الترسانة العسكرية، انعكس سلبا عليها، رغم الزيادة التي حصل عليها الجيش الروسي، إذ زود الجيش الروسي خلال هذه الفترة، بـ600 طائرة جديدة و840 طائرة مروحية، و2300 طائرة بدون طيار، فضلا عن تحديث دبابات وصواريخ جديدة، اختبرت في دونباس، بعد غزوها الأول لأوكرانيا في 2014، وفي حملتها لدعم الرئيس السوري، بشار الأسد، في العام التالي.

ورغم هذا، يقول حلاوة، إن روح القتال لدى الجنود الروس الذين انخرطوا في الغزو، كان عاملا رئيسا في فرض خطة بديلة بسحب الجنود من سوريا، فكثير من الروس الذين لم ينخرطوا بحروب خارجية، في بداية الغزو، لم يعرفوا حتى أنهم ذاهبون إلى الحرب، حتى أمروا بعبور الحدود.

وتابع، “المجندين الذين وعدهم بوتين مرارا وتكرارا وبشكل علني بعدم إرسالهم إلى حرب، تفاجؤوا بالأوامر ومهاجمة الجيش الأوكراني، فالعديد منهم وبحسب تقارير دولية، رفضوا الخدمة تماما، ما أدى إلى تضرر الوحدات وأبرزها الفرقة 106 المحمولة جوا، والحرس الـ 51 التابع لها، وفوج المظلات، وهم جزء من القوات الجوية المتميزة نظريا، وفوج البنادق الآلية 423، جزء من فرقة الدبابات”.

وأوضح حلاوة، أن قلة الخبرة كان حاسما في المعركة، فالجنود غير مدربين تدريبا جيدا ويفتقرون إلى الحافز الكافي لخوض الصراع؛ لذلك لجأت موسكو إلى طلب تعزيز قواتها في أوكرانيا بالجنود الذين خاضوا الحرب في سوريا، وظهر ذلك في همجية القوات الروسية وارتباكها لفظائع في أوكرانيا، وهي تنسجم مع سلوكها الأخير في سوريا.

وعليه، يعتقد حلاوة، أنه من الناحية الجيوسياسية، قد يؤدي الصراع الأوكراني إلى تغييرات هيكلية في المجمعات السكانية التي أفرزتها الحرب سوريا، وبدلا من ذلك، فهو يؤدي في المقام الأول إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية التي من المحتمل أن يعاني منها السوريون، فضلا عن خسارة دمشق للدعم السياسي الذي تمارسه موسكو لها أمام المجتمع الدولي.

تبدل في خريطة الفاعلين؟

تقليص القوات الروسية في سوريا وأثر هذه الخطوة، بتحليل الباحث في مركز “جسور” للدراسات، وائل علوان، أنه سينعكس على الحضور الروسي وخريطة الفاعلين في سوريا، إذ برأيه ستكون مختلفة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، عما كانت قبل ذلك.

ويشير علوان، خلال حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن روسيا وبعد دخولها المتعثر في مختلف جبهات أوكرانيا، وبعد الاستنزاف الكبير وإدراكها أنها أمام معارك استنزاف طويلة، بدأت بإعادة التموضع في سوريا، لهدفين، “الهدف الأول هو الضغط السياسي، بمعنى أن روسيا تريد إيصال رسالة، أن الأحداث في أوكرانيا ستؤثر على الخريطة السورية، والتي كانت تقدم نفسها فيها روسيا على أنها ضامن، لدول المنطقة وإسرائيل والخليج والأردن وتركيا”.

أما الهدف الثاني لإعادة التموضع الروسي، فيقول علوان، أنه من أجل الاستفادة الروسية من ضباط وصف الضباط وحتى العناصر الذين لديهم خبرة قتالية متطورة تراكمت بمشاركتهم في المعارك في سوريا، كذلك في معارك خارج سوريا، لأن روسيا اعتمدت على إعادة تجنيد المقاتلين المحليين، الذين شاركوا في القتال في ليبيا تحت مظلة شركة “فاغنر” الروسية الأمنية.

ومع الانسحاب العسكري، يوضح علوان، أن روسيا توجهت نحو منطقة الساحل السوري، حيث توسع نفوذها في ميناء طرطوس، وهي تقوم بتطوير الميناء في طرطوس، ليكون جاهزا لعملية صيانة السلاح البحري والعتاد البحري الروسي، كما وسعت من نفوذها في ميناء اللاذقية، وبشكل رئيسي لا يتوقع أي انسحاب لها من قاعدة حميميم التي تعد قاعدة استراتيجية على البحر المتوسط لها، وهذا كله كان على حساب انسحابها من جنوب ووسط وشرق البلاد.

وبرأي المحلل العسكري، العقيد عبد الله حلاوة، قد تحسم نتيجة الحرب التي قد تستمر لفترة طويلة في أوكرانيا، قضية الوجود الروسي وطبيعة السياسات الروسية في سوريا، مع مراعاة آثار الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها على سياسات روسيا، فبينما توفر روسيا الأمن والدبلوماسية لتسريع إعادة تأهيل الأسد إقليميا ودوليا، وهو مرادف للاستثمارات والمساعدات المالية، لكن من المفترض أن سوريا معرضة بشكل خاص لتداعيات الحرب الأوكرانية، حيث يتوقع أن يتحول انتباه وموارد روسيا بعيدا عن المنطقة.

الجدير ذكره، أن مسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون”، كشف لموقع “سكاي نيوز”، أمس الأربعاء، أن القوات الروسية بدأت منذ أسابيع تنفيذ انسحاب تدريجي لقواتها من مناطق متفرقة في سوريا، وتحديدا من قاعدة “حميميم” الجوية جنوبي شرق مدينة اللاذقية، وأن عمليات الانسحاب تشمل آلافا من وحدات المشاة وسلاحي الطيران والهندسة.

وأضاف المسؤول، أن وزارة الدفاع الروسية أبلغت الحكومة السورية في دمشق خططها بالانسحاب، حيث تسعى الأخيرة إلى ملء الفراغ الروسي من خلال إرسال وحدات قتالية غير نظامية، منها ما هو تابع للحكومة وأخرى مدعومة من “الحرس الثوري” الإيراني، لتفعيل تواجدها في الشمال والشمال الشرقي استعدادا لاحتمال حصول تغيّرات أمنية ميدانية.

قرار وزارة الدفاع الروسية جاء بناء على توجيهات مباشرة من “الكرملين”؛ بضرورة تعزيز الجبهة الأوكرانية بمزيد من القوات الروسية، خصوصا على جبهتي دونيتسك ولوغانسك، إذ أن الحرب الروسية في أوكرانيا تطلبت استخدام نحو 70 بالمئة من القدرات القتالية البشرية لموسكو.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.