“تنظيم داعش لم يمت، بل إنه يتعافى. كما أنه لم يهزم، هو فقط نائم”. هذا هو ختام تحقيق الصحفيتان إديث بوفييه وسيلين مارتيت، مؤلفتا كتاب صدر حديثا بعنوان “دائرة الرعب”، والذي لا يبعث على التفاؤل. فمنذ سقوط الباغوز، في شرقي سوريا آخر معاقل الخلافة الزائفة لـ”داعش” الإرهابي، في آذار/مارس 2019، وحتى اليوم، تسجل الصحفيتان الفرص الضائعة والخيارات الخاطئة للغرب ولحظات جبنه وتقاعسه، الأمر الذي مكن التنظيم الإرهابي من البقاء. وهو اليوم يرفع رأسه من جديد، من خلال عمليات حرب العصابات المتكررة بشكل متزايد، في العراق كما في سوريا.

كيف وصلنا إلى هنا؟

بدأ كل شيء بسقوط الباغوز! فقد كان هذا السقوط واحدة من تلك اللحظات الحاسمة في التاريخ، حيث تملي الاختيارات على الفور مسار الأحداث، لسنوات عديدة قادمة. وفي حالة الباغوز هذه، تمثل الخيار الغربي في “التعاقد من الباطن” لإيكال إدارة عشرات الآلاف من سجناء داعش إلى قوات سوريا الديمقراطية، الحليف الرئيسي المحلي للتحالف الدولي المناهض لداعش. وبذلك تم تكديس الرجال فيما يسمى بسجون “الحراسة المشددة”، لكن العواقب أظهرت ضعف هذه السجون، سواء أمام هجوم من قبل الجيش التركي، وكذلك أمام هجوم الجهاديين الذين “سيطروا” على سجن في الحسكة لمدة أسبوع في كانون الثاني/يناير الماضي.

وبالنسبة لبعض هؤلاء الجهاديون، الذين تم تحديدهم على أنهم الأكثر خطورة، تم “التعاقد من الباطن” مرة أخرى مع العدالة العراقية، والتي لا يزال يتعين إثبات درجة استقلاليتها وعدالتها، لمحاكمتهم. وهم أيضا محتجزون اليوم في سجون ستتعرض عاجلا أم آجلا للهجوم والتي يسهل تهديد حراسها أو رشوتهم. لكن “صندوق الحرب” الحقيقي للجهاديين هو النساء وأطفالهن، فهم يمثلون مستقبل التنظيم، وذلك وفق ما ترجم موقع “الحل نت” عن صحيفة “لوموند” الفرنسية.

فبدلا من إعادة هؤلاء النساء والأطفال إلى أوطانهم، من أجل محاكمة النسوة وتربية الأطفال في بيئة أكثر أمانا وصحة، اختارت الدول الأوروبية ترك نحو ثمانية آلاف من مواطنيها في مخيمات غير صحية، باردة في الشتاء وحارقة في الصيف. وقد كان هذا الخيار قصير النظر، حيث تم إجراؤه تحت ضغط الرأي العام المعادي لعودة هؤلاء المنبوذين، وكان على رأس المعارضين نقابات ضباط الشرطة وموظفي السجون.

وهذا هو الوقت الذي كان يفترض فيه حقا على السلطة السياسية ألا تستسلم لهذه المخاوف والمصالح الدنيا، للتركيز على المصالح العليا للأمة. فليس من مصلحة فرنسا أن ترى حوالي مائتي طفل يكبرون في ظروف مروعة، تحت سيطرة أمهاتهم المتطرفات ليرضعوا كراهية بلدهم مع الحليب، مما يحرمهم من جميع الحقوق والكرامة وجعلهم يدفعون ثمن جرائم أباءهم. وإذا لم يتم إعادتهم إلى أوطانهم اليوم، فإن هؤلاء الأطفال سيشكلون بالتأكيد الجيل القادم من الجهاديين، لا بل سنجعل منهم قادة متمرسين. وحتى ذلك الحين، فإن هؤلاء الأطفال سيخدمون دعاية تنظيم داعش، الذي سيجعل منهم شهداء لقضيته وإثبات عجز الديمقراطيات عن تطبيق القيم التي تدعي الدفاع عنها.

النساء في قلب المشروع الجهادي

ومن ثم فإن هذه “الدائرة الجهنمية” هي التي وصفتها إديث بوفييه وسيلين مارتيت. ويجسد كتابهن بشكل مثالي بعدين من الأبعاد التي أعطت تنظيم “داعش” قوته وطابعه المبتكر: القدرة على ربط بين “هنا” و”هناك” بشكل دائم، والتنقل ذهابا وإيابا بين “العدو البعيد” و”العدو القريب”، وهي مصطلحات خاصة بتنظيم القاعدة، والقدرة على حشد النساء لوضعهن في صميم مشروع “داعش”، مما يجعلهن الضامن الأساسي لاستمرار دعايته والتواصل الاجتماعي الجهادي والدوافع الراديكالية.

ولطالما تم الاستهانة بالنساء الجهاديات، معتبرين إياهن أشباح خاضعة لسلطة الجهاديين الرجال. لكن مع “داعش” كان العكس تماما، فهن محرك المشروع الجهادي وعقله. إنهن قبل كل شيء الضامنات لاستمرار بقاء التنظيم! إنهن من يلدن الأطفال ويثقفوهن على العقيدة الأيديولوجية لداعش. لذلك فهن أكثر قيمة من المقاتلين القابلين للقتل والزوال. وفي وقت هزيمة الباغوز في عام 2019، عندما كانت سمعة داعش في أدنى مستوياتها، استاءت العديد من هؤلاء النسوة، دون إنكار معتقداتهن الجهادية، من تنظيم جرهن إلى مثل هذه الكارثة. وكان من الضروري حينها انتزاعهن من قبضة التنظيم عن طريق إعادتهن إلى فرنسا. وقد فات الأوان اليوم، بعد أن أصبحن قويات ومقتنعات بأن داعش فقط هي التي تدعمهم في محنتهم.

وبعد المخيمات السورية، يروي الكتاب المذكور عالم السجون الجهادي في فرنسا. فكل شيء ليس على ما يرام هناك، لكن كل شيء أفضل من انعدام الأمن في المخيمات السورية والهروب المتكرر للجهاديين الفرنسيين الذين يجدون أنفسهم في منطقة إدلب، وهو جيب خاضع لسيطرة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا)، القريبة من تنظيم القاعدة.

وفي فرنسا، تخصص المؤلفتان فصلا لبرنامج إعادة “دمج الأقران”، الذي لا يمكن إنكار نجاحاته. وقبل كل شيء، تتحدثان عن عملية إعادة التأهيل التي يمر من خلالها الأطفال العائدين إلى وطنهم. ورغم الصعوبات، ربما يمنع هذا البرنامج فرنسا، في غضون خمس أو عشر أو خمسة عشر عاما، من مواجهة موجة جديدة من الإرهاب الجهادي، والذي قد يكون أكثر ضخامة وشراسة من إرهاب اليوم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.