مع التهديد بتوغل تركي جديد في الشمال السوري يلوح في الأفق، بات لدى الولايات المتحدة فرصة لتصحيح أخطائها السابقة في سوريا.

وبحسب تقرير لموقع “ناشيونال إنترست” وترجمه موقع “الحل نت”، فإن أعين العالم، التي كانت مركزة على سوريا قبل بضع سنوات فقط، بالكاد تبصر هذه البلاد اليوم مع تزايد التركيز العالمي على أوكرانيا والصين. لكن سوريا، ساحة التدريب الروسية لحربها في أوكرانيا، مهددة الآن بدوامة جديدة من العنف سيكون لها تداعيات خارج الحدود السورية. وبالنسبة لواشنطن، هذه الأزمة هي فرصة لاستعادة نفوذها المفقود في الشرق الأوسط.

فالقوات الأميركية لا تزال في سوريا. وكذلك القوات الروسية، إلى جانب القوات التركية. وتشترك مناطق النفوذ الثلاث في حدود مشتركة. وتقوم القوات الأميركية والروسية بدوريات في أجزاء مختلفة من الأراضي التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي هزمت تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا بمساعدة القوات الجوية الأمريكية، بينما تسيطر تركيا على أجزاء من الحدود الشمالية وتدعم قواتها فصائل مختلطة التوجهات على الأرض.

يقول التقرير “لقد وصلنا إلى هذا الوضع المحفوف بالمخاطر بسبب الخطأ الأمريكي! فقد دخلت أمريكا في شراكة مع قوات سوريا الديمقراطية منذ 2014 لهزيمة داعش، بعد أن لفتت وحدات حماية الشعب، انتباه واشنطن بموقف شجاع في بلدة كوباني الحدودية. وعلى الرغم من أن قوات سوريا الديمقراطية أثبتت أنها شريك لامع على مدى السنوات التالية، حتى أنها قامت ببناء دويلة متعددة الأعراق وشبه ديمقراطية بعد تدمير داعش، إلا أنها ترافقت مع تحذير واحد: العداء التركي”.

ومع ذلك، لم تستطع أنقرة المضي قدما ضد المنطقة الأساسية لـ”قسد” بسبب الوجود الأمريكي هناك. فأمريكا وعدت بحماية “قسد” مقابل تنازلات لتركيا. بالمقابل، وافقت “قسد” على نزع سلاح الحدود والسماح بتسيير دوريات أمريكية تركية مشتركة.

وبالرغم من كل ما سبق، فقد اختار الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من معظم أراضي “قسد” في تشرين الأول/أكتوبر 2019، تحت تأثير مناشدات الرئيس التركي ورغبته المبهمة استراتيجيا بتقليل البصمة الخارجية لأمريكا. فشنت تركيا على الفور عملية عسكرية آنذاك في الشمال، مما أجبر قوات “قسد” على دعوة القوات الروسية للقيام بدوريات في تلك المناطق التي أخلتها الولايات المتحدة. وحصرت تركيا، غير الراغبة في مهاجمة روسيا، عمليتها في منطقة محدودة بين بلدتي رأس العين وتل أبيض الحدوديتين.

يستمر هذا الترتيب المحرج حتى اليوم، حيث تقوم القوات الأمريكية بدوريات في جزء من أراضي قوات “قسد”، وتسيطر الفصائل المعارضة المدعومة من أنقرة على هذا الشريط الحدودي، وتقوم روسيا بدوريات على الباقي. لكن روسيا اضطرت مؤخرا إلى سحب بعض قواتها من سوريا بسبب حربها في أوكرانيا، مما أدى على وجه الخصوص إلى عدد أقل من الطلعات الجوية فوق سوريا. وليس من الواضح ما إذا كانت روسيا لا تزال لديها الإرادة أو القدرة على الدفاع عن “قسد”، ما قد يبدو أن الوقت بات مناسبا لتركيا من أجل أن تضرب من جديد.

لا عجب إذن أن أردوغان أعلن للتو عن نيته القيام بذلك، متعهدا بـ “تطهير” منبج وتل رفعت من الإرهاب، فهما مدينتان تسيطر عليهما قوات “قسد”. ومنبج كبيرة جدا، وإذا قاومت “قوات سوريا الديمقراطية”، فإن أي معركة في المدن ستؤدي إلى سقوط العديد من الضحايا، بما في ذلك المدنيين.

فهل يعتقد أردوغان أن روسيا ستنسحب ببساطة وتسمح له بالتقدم؟ ربما! فلا القوات الروسية ولا الأمريكية قامت مطلقا “بحماية” قوات “قسد” بالمعنى الكامل.

ليس من الواضح ما إذا كانت روسيا تحتفظ بالقدرة على معاقبة تركيا اليوم، لاسيما بالنظر إلى عمليات بوتين العسكرية المستمرة هنا وهناك. بل على العكس من ذلك، تمتلك تركيا كل الأوراق، فهي تتحكم في الوصول إلى مضيق البوسفور، وبالتالي يمكنها تغذية أسطول البحر الأسود – الذي تم رفض دخوله رسميا إلى البحر الأبيض المتوسط ​​وبالتالي غير قادر على الوصول إلى القاعدة السورية الروسية في طرطوس – أو إيقاف سفن الشحن الروسية. كذلك أثبتت طائرات “بيرقدار” التركية بدون طيار فعاليتها في أوكرانيا، ولا تزال عمليات التسليم مستمرة. بالإضافة إلى أن حافز روسيا للبقاء في منبج أو تل رفعت ليس قويا للغاية. فهي تريد دعم الأسد بالطبع، والأخير يريد بالتأكيد آبار النفط في دير الزور، لكن شمال سوريا لم يكن أبدا منطقة مزدهرة للغاية. على أي حال، قد يحسب أردوغان جيدا أن روسيا ستنسحب ببساطة، ويمكنه بسهولة تقديم الجزرة لها لتيسير الصفقة.

ومع ذلك، فإن الغزو التركي الجديد لن يضر بالشعب السوري وقوات سوريا الديمقراطية فحسب، بل سيضر أيضا بالمصالح الإستراتيجية الأمريكية.

في سوريا، كما هو الحال في العديد من حالات التنافس بين القوى العظمى، كان المفتاح هو الوجود هناك أولا، لردع الدول الأخرى. ولكن مثلما لا تستطيع تركيا أو الأسد أو روسيا مهاجمة منطقة تحرسها القوات الأمريكية، لا يمكن لأمريكا ببساطة طرد القوات الروسية أو التركية.

وإذا انسحبت روسيا، فلماذا تترك تركيا لتملأ الفراغ، خاصة إذا كان أي توغل يتضمن تنازلات من الباب الخلفي لبوتين؟ وبدلا من ذلك، يمكن لأمريكا، وينبغي عليها، أن تستأنف دورها السابق كحامية لأراضي قوات سوريا الديمقراطية بأكملها.

كل ما تحتاجه الولايات المتحدة هو الإعلان بأن القوات الأمريكية ستستأنف الدوريات في أي منطقة تخليها القوات الروسية. ولجعل هذا الإعلان ذا مصداقية، يجب على الولايات المتحدة تعزيز وجودها في سوريا بمزيد من الدروع الثقيلة والقوات الإضافية. وسيؤدي القيام بذلك إلى ترك روسيا أمام خيار صعب؛ إبقاء القوات المطلوبة لحربها في أوكرانيا تقوم بدوريات في منطقة ذات قيمة إستراتيجية متواضعة، أو الانسحاب والمخاطرة بعودة النفوذ الأمريكي وقوة قوات سوريا الديمقراطية بشكل مفاجئ.

وعلى الأرجح ستبقى روسيا في مكانها في هذه الحالة، لكن هذا ليس بالأمر السيئ. ومن الأفضل بكثير للولايات المتحدة أن يكون لديها قوات سوريا الديمقراطية سليمة باعتبارها تهديدا مستمرا لسلطة الأسد من الغزو التركي الذي سيفيد في النهاية الأسد وإيران ويزيد من تآكل الشراكة الأمريكية مع قوات سوريا الديمقراطية.

كما أن ضمان الحماية في حالة الانسحاب الروسي يقلل أيضا من نفوذ الأسد وبوتين على قوات سوريا الديمقراطية. فلطالما كانت علاقة قوات سوريا الديمقراطية متوترة مع الأسد، الذي قمع الأكراد قبل الحرب السورية، ومع روسيا، التي وعدت في البداية بحماية عفرين من الهجمات التركية، لكنها أخلفت بوعودها بعد ذلك. وتحتفظ روسيا بالنفوذ، لأنها يمكن أن تهدد بالانسحاب في أي وقت، مما يسمح لتركيا بالغزو، والأمل هو أن يسمح هذا التهديد للأسد بزيادة سيطرته تدريجيا على المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. لكن إذا علمت قوات سوريا الديمقراطية أن أمريكا، وليس تركيا، من سيملأ فراغ السلطة الذي سيخلفه الانسحاب الروسي، فلن يكون لديها حافز كبير للاستماع إلى مطالب الأسد أو السماح لحكومته بالتدخل في هيئات الحكم الذاتي المحلي.

وفي الواقع، في هذه الحالة، ستريد قوات سوريا الديمقراطية مغادرة روسيا والأسد، خاصة وأن الولايات المتحدة وافقت مؤخرا على إعفاء الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية من بعض العقوبات المفروضة على حكومة دمشق. وسيسمح هذا الإعفاء بالاستثمار الأجنبي (باستثناء قطاع النفط)، ولكن من المرجح أن يأتي المستثمرون الأجانب أكثر إلى منطقة محمية من قبل الولايات المتحدة.

كما يمكن لأمريكا زيادة التأثير من خلال تحسين جودة شحنات أسلحتها إلى قوات سوريا الديمقراطية. فهي تقوم بتزويد قوات سوريا الديمقراطية منذ عام 2014، لكن معظم الشحنات تقتصر على الأسلحة الصغيرة والمركبات وما شابه ذلك. في حين أن إرسال الأسلحة أمر صعب، لأن هناك حاجة ماسة إليها في أوكرانيا، يجب على واشنطن أن تضع خطة طويلة الأجل لتدريب وتسليح قوات سوريا الديمقراطية بأنظمة حديثة مضادة للدبابات، بالإضافة إلى أنظمة الدفاع الجوي المحمولة. فالأسلحة الأفضل ستجعل أي تقدم تركي أكثر تكلفة وصعوبة. كما أنها ستحد من قدرة الأسد على مهاجمة قوات سوريا الديمقراطية مباشرة، حتى بدعم روسي، مما يجبره على الاعتماد على التهديد بالانسحاب الروسي وما يترتب على ذلك من تقدم تركي لممارسة النفوذ. ومع ذلك، يمكن أيضا منع ذلك من خلال وعد أمريكي بملأ الفراغ قبل تركيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.