ما بين تفاوض مرير وشروط مفروضة واختلاس، في هذا البلد الذي يعيش في حالة يرثى لها بعد عشر سنوات من الحرب، يحاول كل من الفاعلين الذين يسيطرون على جزء من الأرض السورية استخدام ما يقدمه المانحون لمصلحته الخاصة.
“إنه لأمر فظيع أن تصل إلى حلب مع كل هذه الأنقاض…”، تقول لاجئة سورية في لبنان، واجهت صعوبة في التعرف على مدينتها، عندما ذهبت لزيارة والديها، بعد سنوات طويلة من القطيعة. فهم لم يغادروا قط الأحياء الشرقية لمدينة حلب في الشمال السوري.

“لقد غادر الكثير من سكان حلب. أما بالنسبة لمن بقوا، فالحياة صعبة. حتى الخبز ينهار، لأنه مصنوع من دقيق سيء. كل شيء باهظ الثمن”، تضيف الشابة. لم يرافقها زوجها خوفا من الاعتقال. فهو يعرف أنه مطلوب من قبل أجهزة المخابرات السورية، وحتى بدون ذلك لم يكن الزوجان يتخيلان في الوقت الحالي العودة إلى سوريا بشكل دائم، على الرغم من حبهم لبلدهم.

وباستثناء إدلب في شمال غربي البلاد، لم يعد القتال جزءا الحياة اليومية لغالبية السكان، لكن التفجيرات والقصف تراجعوا ليفسحوا المجال أمام بلاء آخر، والمتمثل بأزمة اقتصادية عميقة أصابت السكان المنهكين أصلا، بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب. وقد حذرت الأمم المتحدة اليوم من أن “أكثر من 90 بالمئة من السوريين يعيشون في فقر”. كما يتزايد العنف القائم على النوع الاجتماعي والمخاطر التي يتعرض لها الأطفال. ولا يزال التعرض المحتمل للألغام والقذائف غير المنفجرة مرتفعا. ووصل انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات قياسية جديدة: 12 مليون شخص يعانون من الجوع كل يوم. كذلك ما يقارب طفل من بين كل طفلين سوريين خارج المدرسة وعرضة للعمالة والزواج المبكر والقسري والاتجار والتجنيد من قبل الجهات المسلحة المختلفة.

لقد أدى هذا الوضع الاقتصادي، بالإضافة إلى المأزق السياسي، إلى جعل السكان أكثر اعتمادا من أي وقت مضى على المساعدات الإنسانية. هذا الوضع قائم أينما كنت في هذه البلاد المقسمة الآن إلى ثلاث مناطق نفوذ؛ مناطق سيطرة حكومة دمشق (الجزء الرئيسي من البلاد، وتضم أكبر عدد من السكان)، والشمال الغربي، الذي يهيمن عليه إسلاميون، والشمال الشرقي تحت سيطرة “الإدارة الذاتية”. إنها دولة متعطلة في منتصف الطريق بين الحرب والسلام! فسلطة دمشق الواثقة من انتصارها، ولو كلفها تدمير جزء من البلاد أو كلها، ترفض أي تنازل سياسي.

وعلى الأرض تتدخل سلسلة من الممثلين الأجانب الذين ليس لديهم نية لحزم أمتعتهم في أي وقت قريب. فروسيا وإيران و”حزب الله” اللبناني حاضرين مع معسكر الأسد. وتركيا، التي فرضت نفسها كقوة وصاية في الشمال الغربي والشمال المجاور، لا تزال تهدد بتوسيع “منطقتها الأمنية”. وتحتفظ الولايات المتحدة بقوات إلى جانب قوات “قسد” في الشمال الشرقي، بانتظار انسحاب محتمل. أما بالنسبة للأوروبيين، فإن دبلوماسييهم يراقبون بجزع فشل العملية السياسية للأمم المتحدة، والتي هي في حالة موت سريري، وإن لم يجرؤ أحد على القول بأنه كان هناك بصيص أمل في الحوار غير الرسمي في جنيف بين موسكو وواشنطن. لكن الغزو الروسي لأوكرانيا أغلق هذه النافذة.

مساومات دائمة

لقد استوعبت السلطات الحاكمة في كل من “المناطق السورية الثلاثة” المصلحة التي يمثلها هذا الدعم الإنساني؛ منع أو إبطاء الانهيار التام وبالتالي احتواء غضب السكان. وأصبحت المساعدة أمرا حيويا بالنسبة للعائلات، وباتت قضية سياسية بامتياز. فمنذ بداية الحراك الشعبي في عام 2011، أصبح دعم السكان قضية سياسية. وقد استغلتها حكومة دمشق لمعاقبة معارضيها، ولمكافأة التجار المخلصين لها، ولتأكيد سلطتها في المجتمع الدولي. وبدأت دمشق تعزف على وتر بأنها وحدها من سيحدد القنوات لإيصال المساعدات إلى التراب الوطني، حتى لو كانت منطقة محاصرة أو تقصفها. وفي آذار من ذلك العام، منعت دمشق وصول قافلة إنسانية للصليب الأحمر على أبواب مدينة حمص، حيث كانت منطقة بابا عمرو من أولى حصون المعارضة والتي حاصرها الجيش وقصفها بعنف. واستمرت العقبات من هذا النوع في التكاثر، وأصبحت المساعدة هدفا للمساومة الدائمة، على الرغم من أنها من حيث المبدأ محايدة وبدون تعويض. وبات تنفيذ المهمات الإنسانية في ظروف خطرة يتزايد، وبات الوصول عن طريق التفاوض القاسي.

منذ عام 2019، أدى الاستيلاء التدريجي لدمشق وحليفتها موسكو على الأراضي إلى تغيير الوضع. وانتهت أيام القوافل الطويلة التي نظمت وسط هدنات قصيرة. ويشكل “الأمن الغذائي” و “المرونة” الآن أهم أولويات المانحين الدوليين. وفي 9 و10 أيار الماضي، أكد مؤتمر بروكسل السادس حول “مساعدة مستقبل سوريا ودول المنطقة”، لبنان والأردن وتركيا، التي تستضيف جميعها أكثر من خمسة ملايين لاجئ، هذا الاتجاه.

وعلى عكس التوقعات المقلقة التي أشارت إلى إجهاد المانحين والاحتياجات المنافسة في أوكرانيا، تم التعهد بتقديم 6.4 مليار يورو لعام 2022-2023، أي أكثر من عام 2021، على الرغم من أنه أقل بكثير من المبلغ المطلوب والمقدر بـ 9.97 مليار يورو من قبل الأمم المتحدة. “سوريا لا تزال أولوية، هذه أخبار جيدة”، يقول باسل كغدو، مستشار الأمم المتحدة وعضو مجموعة الموارد السورية، وهي مجموعة من الخبراء السوريين الذين يعملون على “الانتقال المستدام”. لكن من ناحية أخرى، يأسف كغدو لأن مستوى التمثيل السياسي كان منخفضا، مما يدل على أن لا شيء يتحرك في هذه المنطقة، ولأنه لم يتم تحديد استراتيجية طويلة المدى.

باب الهوى، ممر حيوي

أخيرا، القضية المشتعلة الأخرى هي قضية فتح طريق القوافل الإنسانية للأمم المتحدة المتجهة إلى جيب إدلب الذي تسيطر عليه “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا) على الحدود التركية. فقد حاولت روسيا وضع حد لهذا الممر، قبل الحصول على امتياز للتعافي المبكر. ومنذ ذلك الحين تضغط من أجل المرور عبر الجنوب، من المناطق التي تسيطر عليها حكومة دمشق، ويتمثل التحدي مرة أخرى في تعزيز دور دمشق داخل وخارج المنطقة.

وبينما أدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم العداء بين روسيا والولايات المتحدة، فإن الأمر متروك لمجلس الأمن ليحسم، في بداية شهر تموز المقبل، مصير هذا الممر الصغير الذي تعتمد عليه حياة الملايين من المدنيين في شمال غربي سوريا. وفي الرابع من الشهر الجاري، زارت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، أنقرة. وأعلنت أنه “لا بديل عن المساعدة عبر الحدود”، مؤكدة أن مواقف الولايات المتحدة وتركيا متوائمة تماما في هذه النقطة على الأقل. “إن إغلاق آخر معبر حدودي إنساني مع سوريا سيكون قاسياً للغاية”، على حد تعبيرها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.