واضحة كانت مطالب العراقيين في أواخر العام 2019، حينما اجتاحوا الشوارع بتظاهرات عارمة عمت مدن وسط وجنوب البلاد، بأن الوضع بات لا يطاق ولا بد من تغيير جذري على مستوى النظام، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البلاد.


وعلى الرغم من استخفاف الطبقة الحاكمة في مطالب الشباب، ومواجهتها لهم بالرصاص، ليُقتل المئات ويُصاب الآلاف ويغيب العشرات، إلا أن الحراك نجح في إسقاط الحكومة حينها، والضغط نحو تعديل قانون الانتخابات، التي ستجرى فيما بعد على وفقه في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2021.


خطوات مضت نحو عملية انتقالية كان يُتوقع لها أن تعيد البلاد إلى مضمار الإصلاح، لاسيما في ظل السخط الشعبي الذي حاوط القوى السياسية التقليدية التي جثمت على السلطة منذ نحو عقدين، قبل أن تعود الأوضاع لتعلق في منتصف الطريق، وتنذر بما لا يحمد عقباه، بحسب مراقبين.


إذ تحولت الانتخابات إلى نقطة للعودة إلى الوراء بقانونها الجديد ونتائجها التي أفرزتها، وكان ينتظر منها الانتقال بالعملية السياسية إلى عقد سياسي جديد ينتقل ببلاد الرافدين إلى نادي الديمقراطية ومرحلة عبور التخندقات الطائفية، والخلاص من المحاصصة التي أنهكت البلاد والعباد.


أعادت الانتخابات التي كان الفائر الأكبر فيها “التيار الصدري“، بزعامة مقتدى الصدر، بـ 73 مقعدا، توزيع القوة بشكل غير معهود بين الكتل السياسية التي لم يرق لها ذلك، حيث جاءت القوى الشيعية المقربة من إيران أخيرة في النتائج، ليفتح ذلك صفحة جديدة من الصراع السياسي على العراق، والذي سيتحول مؤخرا إلى نذر فوضى، وفقا لمتابعين ومختصين.

اقرأ/ي أيضا: تراجع الاتفاق النووي الإيراني.. هل يعيد حرب “المسيرات” في العراق؟


معسكرات سياسية


أدت تلك النتائج إلى انقسام القوى السياسية إلى معسكرين، يرفع الأول منهم المتمثل بالتحالف الثلاثي الذي اسمي “إنقاذ وطن” ويضم “الكتلة الصدرية” والحزب الديمقراطي الكردستاني الفائز بـ 31 مقعدا، وتحالف “السيادة” الجامع لمعظم القوى السنية بـ 65 مقعدا، شعار حكومة “الأغلبية“.


والثاني ائتلاف “الإطار التنسيقي“، بـ 88 مقعدا نيابيا، ويرفع شعار “حكومة توافقية“، ويضم القوى الشيعية المقربة إيرانيا إلى جانب حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني“، وتجمع “عزم” الذي يضم عدداً من النواب السنة.


اختلاف رؤى المعسكرين، وإصرار كل منهما على مشروعه، دفع بالصدر إلى الانسحاب من العملية السياسية وتوجيه أعضاء كتلته بالاستقالة من البرلمان، بعد أن عطّل غريمه الشيعي “لإطار” مشروعه نحو “أغلبية” تستثني بعض الأطراف منهم بتشكيل الحكومة، ليترك لهم الساحة بالمضي نحو “التوافقية” التي يسعى من خلالها الإطار لإشراك الجميع فيها.


لكن انسحاب الصدر الذي يتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة ومطيعة ويحسن استخدامها في تحريك الشارع وإرباك حسابات خصومه، والضغط لتحقيق أهدافه، ترك خلفه الكثير من الاستفهامات، لاسيما في ظل حالة الاستقطاب التي تشهدها الساحة العراقية بين جماهير الغريمين، والتي تشتد يوما بعد يوم.


وعلى الرغم من غياب الموقف في الوقت الحالي، بما ستتجه إليه الأمور، فيما إذا كان التيار الصدري سيلجأ لاستخدام الشارع، أم ستدفع تراكمات الفشل السياسي في الخروج من الأزمة، وإصرار دعاة التوافقية في بقاء العملية السياسية في إطار المحاصصات، إلى موجة جديد من الاحتجاجات، أو العودة إلى انتخابات مبكرة، حاول موقع “الحل نت“، استقراء الحالة، وتحدث لبعض من أهل الاختصاص والاهتمام.

اقرأ/ي أيضا: إعلان أسباب انسحاب “الكتلة الصدرية“.. تمهيدا لحراك شعبي عراقي؟


تحذيرات


حيث رجح البعض فشل العملية السياسية من دون العودة إلى اقناع الصدر، فيما ذهب المحلل السياسي حيدر الموسوي من جانبه إلى أبعد من ذلك، إذ حذر من “فوضى عارمة قد تجتاح مدن الوسط والجنوب على غرار أحداث لبنان في ثمانينيات القرن الماضي“.


الموسوي قال في حديث خاص لموقع “الحل نت“، إن “ما بعد التاسع من نيسان/أبريل 2003 تكاد تكون أغلب تلك المدن والمحافظات وساكنيها من أكثرها هدوءاً واستقرارا حيث لم تألف مشاكل داخلية على المستوى الاجتماعي أو الحراك الحزبي“.


واستطرد أن “بعد سنوات بدأت الأمور تأخذ منحى تصاعديا باتجاه انشقاق عدد من الحركات واستمرار الانشطار، حتى بلغت حدة التشظي إلى الاستعداء داخل تلك التوجهات السياسية حتى وصلت إلى أخر تسونامي في تلك المدن، حينما شهدت حراك احتجاجي واسع سمي بأحداث تشرين لتبدأ تلك الجغرافية تلتهب، في حين أن جميع المضادات الحيوية لم تعالج هذا الالتهاب، بل بقيت كل الفرق متمسكة بأحقيتها في القيادة من خلال بعض الذرائع والأدلة التي تعتقد بها“.


بالتالي أن “الرأي العام من جانبه وبعد الانتخابات الأخيرة، واستمرار الانسداد السياسي وانسحاب التيار الصدري من البرلمان، متخوف من حدوث فوضى قادمة تجتاح تلك المناطق بشكل مشابه لما حدث في ثمانينات القرن الماضي بلبنان“، مشيرا إلى إنه “لذلك كانت تحذيرات المرجعية واضحة بهذا الصدد “.


الموسوي لفت إلى أن “التوتر يخيّم على تلك المدن وسكانها، على الرغم من العلاقات والمصاهرة الموجودة بين النسيج المجتمعي، وذلك خشية من اندلاع وتيرة احتجاجات كموجة ثانية قد يتم اللجوء فيها إلى حمل السلاح“.


أقلمة


ليس ذلك فحسب، بل أن “الأمور إذا ما ذهبتْ بذلك الاتجاه، فقد تدفع بتدخل خارجي يتخذ قراره الأخير بشأن عدم صلاحية هذا النظام، ويذهب لتدويل الوضع والاجهاز على ما تبقى منه، بالتالي إن في كلتا الحالتين سكوت الخاسر الوحيد هذه المناطق، من حيث البنى التحتية والنسيج الاجتماعي والسلم الأهلي“.


الخبير السياسي أشار أيضا، إلى أن “ذلك السيناريو قد يدفع بإقليم كردستان إلى إعلان الاستقلال بدعوى عدم توفر الاستقرار في بغداد، كما أن باقي البلاد لم تعد أمنه، فيما تحذوا المحافظات الغربية ذات الطابع السني، حذو كردستان، بالتالي هنا سيتحقق الهدف القديم لصاحبه الرئيس الامريكي الحالي جو بايدن بضرورة وجود الدويلات الثلاث، وهذا ما تشجعه عدد من الدول الإقليمية “.


لذلك يعتقد الموسوي أن “وسط وجنوب العراق اليوم هي أمام تحد كبير، لاسيما في ظل حالة التصعيد التي تشهدها مواقع التواصل الاجتماعي، التي لا تبعث بحالة مطمئنة أبدا، ما يتطلب وقفة جدية لتفعيل عملية سياسية ناجعة، من خلال فتح قنوات الحوار بين ممثلي الوجودات السياسية مع شرط الهدوء والعقلنة، ولابأس أن يتم الاتفاق على موعد جديد آخر للانتخابات، واعطاء فرص أخرى مع الأخذ بنظر الاعتبار تلك الملاحظات“.


وفي خضم ذلك، يعيش العراق حالة من الانسداد السياسي منذ أكثر من 8 أشهر على انتهاء الانتخابات المبكرة، بسبب فشل الصدر في تمرير مشروع “الأغلبية” ورفض “الإطار” الذهاب نحو المعارضة.


حيث فشل تحالف “إنقاذ وطن“، بقيادة الصدر في تمرير مشروعه لعدم توفر النصاب البرلماني القانوني الذي يشترط في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية توافر ثلثي أعضاء المجلس أي 220 نائبا من أصل 329، وتكمن أهمية انتخاب رئيس الجمهورية بتكليفه مرشح الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة.


ذلك الفشل، سببه “الإطار” الذي تمكن من تحشيد 110 نائبا مشكلا الثلث المعطل
الذي لا يسمح بتحقق الأغلبية المطلقة في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وهو ما حدث بالفعل.

اقرأ/ي أيضا: ما وراء تفكك البيت السياسي السني في العراق؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.