تتلاحق التقارير الاقتصادية التي تتحدث عن الوضع الاقتصادي العالمي، وتتسابق حكومات دول العالم في إصدار البيانات والتقارير من خلال الأبحاث والدراسات التي تتحدث عن النمو الاقتصادي والتضخم والقوة الشرائية للمواطنين والإنفاق الحكومي، ولأن سوريا هي جزء من هذا العالم فلا بد من تأثرها بالوضع الاقتصادي العالمي الراهن، لكن مع وجود سلطة شمولية يحكم سوريا فإن الحديث عن مراكز أبحاث مستقلة داخل سوريا أمر يستحيل التحقق، لتقتصر التقارير في أغلب الأحيان على التقارير التي تصدرها السلطة في دمشق.

من آخر التقارير الصادرة عن حكومة دمشق هو التقرير الصادر عن المكتب المركزي للإحصاء عن العام 2021، وجاء فيه أن الاستهلاك النهائي العائلي للعام 2020 بلغ 74.7 مليارات ليرة، وذلك بتقدير عدد السكان 22.5 مليونا خلال عام 2020، أي أن إنفاق الفرد الواحد على الاستهلاك بلغ نحو 9 ليرات سورية بالأسعار الثابتة للعام 2000، ليصل إنفاق الأسرة السورية المكونة من 5 أشخاص على استهلاك السلع والخدمات 45.48 ليرة سورية يوميا فقط، بمعزل عن التضخم وأثره، بحسب التقرير.

وجاء تصريح المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ليصف وضع الأسر السورية والمتعلق بالوضع المعيشي حيث قال فيه إن نحو 12.4 مليون شخص في سوريا لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية، بالتزامن مع ارتفاع في الأسعار تجاوز 50 بالمئة خلال عام 2021.

وإذا ما اقتربنا من الواقع أكثر وأخذنا العوامل الاقتصادية التي يعيشها الاقتصاد السوري بعين الاعتبار والمتمثلة بانخفاض سعر صرف الليرة السورية إلى 4000 مقابل كل دولار أمريكي واحد، وتراجع الإنتاج المحلي والاعتماد على الاستيراد لتأمين المواد الأساسية وشح المشتقات النفطية، و أضفنا إليها العوامل الاقتصادية العالمية ونتائج الغزو الروسي لأوكرانيا، المتمثلة في ارتفاع أسعار الغذاء عالميا وتذبذب أسعار برميل النفط بالصعود وارتفاع معدلات التضخم لمستويات قياسية في أغلب دول العالم، فإننا سنكون أمام واقع مقيت لا يمكن فيه للرواتب والأجور التي تمنح في سوريا أن تغطي أبسط تكاليف العيش، لأن نسبة ما تشكله الأجور من تكاليف المعيشة تكاد لا تتعدى 4.5 بالمئة فقط، ليصل بنا الحال للحديث عن طبقة اجتماعية تعاني من الجوع المهلك، ناهيك عن تآكل التماسك الاجتماعي الذي أصبحت تعاني منه الأسر السورية، بحسب تقارير أممية.

الإنفاق الحكومي وانعدام النمو الاقتصادي

في ظل الوضع الاقتصادي الذي يعيشه العالم يبرز دور الحكومات وتدخلها في الحياة الاقتصادية، ويتجلى ذلك بشكل بارز بما يسمى بالإنفاق الحكومي.
ففي سوريا شهد الإنفاق الحكومي على الاستهلاك انخفاضا كبيرا يقدر بأكثر من 80 بالمئة منذ عام 2000 وحتى عام 2020، مع احتساب اختلاف سعر الصرف بالدولار الأمريكي خلال الفترتين.

ويعتبر هذا الانخفاض ليس غريبا وخاصة مع خروج أغلب موارد الدولة من يد سلطة دمشق وانهيار القطاعات الاقتصادية وارتفاع نسب التضخم لمستويات غير مسبوقة خلال سنوات الحرب.

ويعرف الإنفاق الحكومي بأنه مجموع ما تنفقه الحكومات في مشاريع البنى التحتية المشجعة للاستثمار، وما تنفقه من معونات لدعم الأفراد بشكل عام، وخلال الأزمات الاقتصادية بشكل خاص.

ولأن النمو الاقتصادي هو أحد المؤشرات الأساسية للنهوض باقتصاد البلد فقد تحدث “المرصد الاقتصادي السوري” في تقريره عن واقع النمو الاقتصادي لسوريا متوقعا فيه بأن تستمر الظروف الاقتصادية في سوريا بهذا السوء، ومن الممكن أن تميل نحو الجانب السلبي، وذلك بسبب النزاع العسكري والاضطرابات في لبنان وتركيا وجائحة “كورونا” والحرب في أوكرانيا.

ومن المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بنسبة 2.6 بالمئة العام الحالي بعدما انكمش العام الماضي 2021 بنسبة 2.1 بالمئة، وذلك بحسب التقرير ذاته.

وليس من الغريب أن يأتي هكذا تقرير لبلد تعاني من أزمات تعيق نمو اقتصادها، فسوريا لديها الكثير من الأزمات المتراكمة كأزمة الوقود والكهرباء والزراعة وتأمين الغذاء، مع فقدها لبنية تحتية مؤهلة لتحقيق نمو اقتصادي، ولا ننسى القبضة الأمنية التي دفعت أغلب شبابها إلى الخروج منها، وكل ما ذكر لم يعيق النمو الاقتصادي فقط وإنما جعل من مدينة دمشق في المرتبة الأخيرة كونها أسوأ مدن العالم للعيش على وجه الكوكب بحسب تقرير مجلة “إيكونوميست” البريطانية.

الخبير الاقتصادي خالد التركاوي وفي حديثه لـ”الحل نت” حول معالجة سلطة دمشق للأزمات الاقتصادية، خاصة الانكماش في الناتج المحلي، قال بأن الحلول والمعالجات يمكن أن تتوفر ما إذا كان الاقتصاد في حالة مستقرة، وليس في حالة انهيار كما في الاقتصاد السوري.

وأضاف بأن الاقتصاد السوري ومنذ بداية الحرب في تراجع، لذلك لا يخضع لقضايا مرضية كما في الاقتصاديات الصحيحة، وأن حكومة دمشق ليس لديها النية ولا القدرة على تحسين الأوضاع الاقتصادية.

فيما ختم تركاوي حديثه بالقول أن التركيز الأساسي لسلطة دمشق من خلال مؤسساتها الحكومية وغير الحكومية والخاصة المقربة من السلطة جميعها تصب في دعم الجيش والأمن، وحتى الإنفاق الحكومي يكون في هذا الإطار.

من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الاستهلاكي

بحسب تصريح تابع لصحف محلية وصفت فيها الاقتصاد السوري بالاقتصاد الاستهلاكي، بعدما كان يوصف بأنه اقتصاد ريعي يعتمد على الثروات الطبيعية كالمشتقات النفطية لتحقيق موارد الدولة دون الالتفات في تحقيق قيمة مضافة للناتج المحلي لسوريا.

وإذا ما تحول الاقتصاد السوري كما ذكر في التصريح نحو ما يسمى بالاقتصاد الاستهلاكي أو بمعنى آخر الإنفاق الاستهلاكي، والذي يتمثل في إنفاق الأفراد والأسر على السلع والخدمات النهائية، فنحن أمام معضلة اقتصادية أخرى في سوريا تتمثل في التركيز على الإنفاق الاستهلاكي دون الاهتمام في الإنتاج.

ويرى اقتصاديون أن الإنفاق الاستهلاكي ضروري لتحريك العجلة الاقتصادية، ولكن في الحالة السورية ومع انعدام شبه كامل للإنتاج المحلي فلا يمكن أن نستفيد من هذا الإنفاق وإننا نحتاج إلى خطط تفضي إلى دعم رأس المال البشري والنهوض بالقطاعين الصناعي والزراعي.

وفي النهاية لا يمكننا الحديث عن اقتصاد سوري حر ذات دعائم قوية إلا بالخروج من الواقع الديستوبي الذي تتصف به سوريا مع وجود السلطة الحالية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.