إن الدعوة اليوم إلى إدانة الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق السوريين من قبل تركيا، ومحاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات، باتت مطلبا ملحّا اليوم ليس فقط من أجل تعويض الضحايا وتحقيق العدالة المنشودة، وإنما كذلك من أجل الحفاظ على ما تبقى من سكان مناطق شمال شرقي سوريا وحمايتهم.

وبما أن تركيا لم تصادق بعد على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن المطالب بإحالة ملف جرائمها المرتكبة في سوريا إلى المحكمة المذكورة تبقى عديمة الجدية كون الأمر يتطلب موافقة مجلس الأمن الدولي على إحالة هكذا ملف. وإذا افترضنا جدلا بأن إحدى الدول الأعضاء في مجلس الأمن اقترحت مشروع قرار بإحالة جرائم تركيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو أمر مستبعد، فسيكون هناك أكثر من “فيتو” بانتظار مشروع القرار هذا.

وفي مواجهة هذا العجز القانوني الدولي، ليس أمام السوريون اليوم سوى اللجوء المحاكم الأوروبية والغربية، التي تسمح قوانينها بملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، لاسيما جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، بموجب “الاختصاص العالمي”. ويمثل الاختصاص العالمي هذا استثناءا لمبدأ الإقليمية في قانون العقوبات. وهو يرتكز على الدفاع عن المصالح والقيم ذات البعد العالمي ويتمثل في فكرة أن أي قاضي وطني يمكنه إيقاف ومحاكمة مرتكبي الجرائم المذكورة في الاتفاقيات الدولية أو في القانون العرفي الدولي نيابة عن المجتمع الدولي، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة وجنسية مرتكبها وجنسية الضحايا.

ولعل أبرز مثال عن الاختصاص العالمي لملاحقة مجرمي الحرب الدوليين هو القانون الذي تبناه القضاء البلجيكي في العام 1993، قبل أن يتراجع عنه بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

قانون الاختصاص العالمي البلجيكي لعام 1993

في 16 حزيران/يونيو 1993، تبنت بلجيكا قانونا للاختصاص العالمي بهدف قمع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، حيث أعطيت المحاكم البلجيكية الحق بملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن جنسيتهم أو جنسية الضحايا أو مكان ارتكاب الجريمة. وكانت بلجيكا قد صادقت على اتفاقيات جنيف لعام 1949.

وبناءا على الدعوى المرفوعة من الضحايا عام 2002، اتهمت محكمة بلجيكية الرئيس التشادي السابق حسين هبري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لاسيما التعذيب وجرائم أخرى. وعندما أصدر قاضي بلجيكي مذكرة اعتقال بحقه، لجأ هبري إلى السنغال، التي رفضت تسليمه في البداية، قبل الموافقة على محاكمته.

وقد رفعت أمام المحاكم البلجيكية أيضا دعاوى بحق شخصيات سياسية كثيرة مثل هاشمي رافسنجاني (إيران)، وبول كاقام (رواندا)، ولوران – ديسيري كابيلا (الكونغو)، وصدام حسين (العراق)، وفيدل كاسترو (كوبا)، ورولان باقبو(ساحل العاج)، وآخرين.

لكن الدعوى الوحيدة التي أثارت ضجة وقصمت ظهر البعير كانت ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها أريل شارون الذي اتهم في 2001 بقتل 900 شخص على الأقل من الأطفال والنساء الفلسطينيين في مخيمات “صبرا” و”شاتيلا” في ضواحي بيروت عام 1982. فقد أثارت هذه الدعوى حملة إسرائيلية شعواء على بلجيكا وقضائها. وبعد الضغط عليه من قبل إسرائيل، اعتبر القضاء البلجيكي الدعوى المرفوعة ضد شارون غير مقبولة متعللا بأن المتهم غير موجود على الأراضي البلجيكية.

وفي بداية عام 2003، رفعت أسر عراقية دعاوى ضد جورج بوش الأب وديك تشيني وكولن باول بتهمة ارتكابهم جرائم إبان حرب الخليج في العام 1991. ولكن لم يمر شهر على هذه الدعاوى، حتى عدّل البرلمان البلجيكي قانون الاختصاص العالمي. وعليه وبمقتضى تعديل القانون في 23 نيسان/أبريل 2003 يمكن للحكومة البلجيكية تحويل الدعوى لأي بلد أخر إذا لم تكن للجريمة صلة ببلجيكا. لكن الضغط الأميركي استمر، مما دفع بلجيكا لتغيير القانون مرة أخرى، وبناءا عليه لكي تكون الدعوى مقبولة يشترط وجود المتهم على الأراضي البلجيكية.

خيبة الأمل الثانية جاءت بريشة قضاة محكمة النقض الفرنسية. ففي قرارها الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، ضيّقت المحكمة المذكورة من اختصاص المحاكم الفرنسية بالجرائم الدولية المرتكبة في سوريا، إذ قررت أن تطبيق الاختصاص العالمي يخضع لشرطين أساسيين، في حال لم يكن الجاني أو الضحية يحملان الجنسية الفرنسية، الأول هو أن يكون المشتبه به موجودا أو مقيما على الأراضي الفرنسية. أما الشرط الثاني، فيجب أن تكون جريمة الحرب أو الجريمة ضد الإنسانية منصوص عليها في التشريعات السورية.

وهذه لم تكن خيبة الأمل الأولى في القضاء الفرنسي! ففي آذار/مارس 2001، أغلقت محكمة النقض الفرنسية نهائيا مسألة ملاحقة الزعيم الليبي معمر القذافي في قضية تفجير طائرة يوتا، فوق النيجر عام 1989. ونقضت الغرفة الجنائية التابعة للمحكمة المذكورة الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف والذي أجاز محاكمة القذافي، واستندت محكمة النقض إلى حجة رئيسية يقوم عليها القانون الدولي العرفي وهي الاعتراف بحصانة رؤساء الدول لدى قيامهم بوظائفهم، مما يعني عدم جواز ملاحقتهم.

فهل لا يزال رؤساء الدول والحكومات يتمتعون بهذه الحصانة؟

لطالما كان موضوع الحصانة الدبلوماسية مثار جدل بين فقهاء القانون الدولي. فاتفاقيتي فيينا المتعلقة بالعلاقات الدبلوماسية والعلاقات القنصلية تنصان صراحة على حصانة العاملين في السلك الدبلوماسي، دون أي ذكر لرئيس الدولة أو رئيس الحكومة، لكن العرف الدولي اعترف بهذه الحصانة للرؤساء ما داموا على رأس عملهم. وقد تحدى نظام الحصانة هذا قانون الاختصاص العالمي البلجيكي في قضية الكونغو ضد بلجيكا أمام محكمة العدل الدولية في العام 2000، حيث أعلنت هذه الأخيرة في حكمها أن قبض بلجيكا على وزير خارجية الكونغو الديمقراطية يمثل انتهاكا لالتزام قانوني تجاه دولة الكونغو، وهي حماية الحصانة القضائية الكاملة للدبلوماسي التي يتمتع بها بموجب القانون الدولي.
وجاء نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليسقط امتياز الحصانة الذي يعتبر من الضمانات القانونية الدولية المتعارف عليها لحماية رموز الدولة الذين يمثلون رمز السيادة الوطنية والتي أكدت أحكام القانون الدولي على حمايتها وصونها.

فالمادة 27 من النظام المذكور تنص على ما يلي: ” يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلا منتخبا أو موظفا حكوميا، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها، سبباً لتخفيف العقوبة. لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص”.

وكأن هذه المادة جاءت لتقطع الطريق أمام من يجادل في نوع حصانة الرئيس للتملص من العقاب. وقد أتيح بالفعل للمحكمة الجنائية الدولية الفرصة لتطبيق مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة عندما أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير، ليصبح بذلك أول رئيس دولة تصدر بحقه مذكرة اعتقال وهو لا يزال في السلطة. ومع ذلك، فإن المادة 98 من النظام الأساسي ذاته تعطي الذريعة لعدم تجاوب الدول مع قرارات هذه المحكمة لناحية تسليم المتهمين، خاصة إذا كان المتهم رئيس دولة محمي بالحصانة الممنوحة له بموجب القانون العرفي الدولي!

ويبقى السؤال الأهم: هل يمكن للسوريين الاستفادة من تطبيق الاختصاص العالمي في الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي ارتكبت ولا تزال ترتكب بحقهم من قبل تركيا؟

الجواب هو نعم! فبالرغم من القيود التي فرضتها الدول لتطبيق مبدأ الاختصاص العالمي، لا يزال بإمكان السوريون اللجوء إلى هذه المحاكم. ويمكن أن تصدر مذكرات توقيف بحق المتهمين ولو غيابيا، كما حصل ويحصل في ألمانيا اليوم. أما بالنسبة للدول التي تشترط وجود الجاني على أراضيها، فإنه وبمجرد وصول أيا من المتهمين بارتكاب هذه الفضائع لهذه الدول، فإن قضائها سيكون له بالمرصاد.

وإذا علمنا بأن الجرائم الدولية لا تسقط بالتقادم، فإن أمل محاكمة الرؤساء والمسؤولين عن هذه الجرائم والانتهاكات يبقى قائما حتى بعد مغادرة الرئيس أو المسؤول لمنصبه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة