عاش مجرم الحرب النازي ألويس برونر لعقود مختبئا في دمشق، حيث فشلت إسرائيل مرتين في اغتياله. وعندما تمت محاسبته في النهاية، كان ذلك على يد حكومة دمشق بعد أن أمضى هذا النازي وقتا طويلا في خدمتها.

لم تعد دمشق اليوم وجهة آمنة للمسافرين على الكرة الأرضية، لكنها كانت ذات يوم أشبه بجوهرة تاج أماكن السفر في الشرق الأوسط. وفي كتابه الشهير “الأبرياء في الخارج”، كتب مارك توين: “طالما لا تزال مياهها تسير هناك وسط تلك الصحراء العائمة، سوف تعيش دمشق طويلا لتبارك مشهد عابري السبيل المتعبين والعطشى”.

ولكن حتى في أبهى أيامها كوجهة سياحية، كانت بعض الأماكن في العاصمة السورية حساسة وسرية للغاية بحيث لا تظهر في أي أطلس أو خريطة، وفق ما أفاد به تقرير لمعهد “نيولاينز” وترجمه موقع “الحل نت”. كان شارع جورج حداد أحد تلك الأماكن التي لا يمكن العثور عليها حتى يومنا هذا على خرائط “غوغل”. وإذا ما عرجت إلى هذا الزقاق الصغير في حي أبو رمانة الراقي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، لربما لاحظت وجودا غير اعتيادي لضباط الشرطة السورية، سواء كانوا بزيهم الرسمي أو بملابس مدنية، وأعينهم في ترقب دائم. لقد تم توقيف السائحين أو الوافدين الذين بقوا لفترة طويلة في شارع جورج حداد وسؤالهم عن أعمالهم. كان هؤلاء الذين لم يتمكنوا من تقديم إجابات مقنعة عرضة للاعتقال أو الترحيل، إن لم يواجهوا ما هو أسوأ.

لقد كانت عناصر الأمن في الشارع تراقب مبنى واحدا على وجه الخصوص، وهو المبنى رقم 22 الذي يقع في زاوية شارع جورج حداد، فعلى الأقل في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت ملكية هذا المبنى تعود للحكومة السورية إلى جانب العديد من الشقق المؤجرة لضيوف الدولة ذوي الرتب المنخفضة والمغتربين والمستشارين الأجانب. وكان بعضهم من مجرمي الحرب النازيين الهاربين. وفي أواخر الأربعينيات عاش فرانز ستانغل، قائد معسكر الإبادة في بريبلينكا، هناك لفترة قصيرة. إلا أن الضيف الأكثر شهرة في ذلك المبنى كان ألويس برونر، أحد مرتكبي المحرقة اليهودية آنذاك. وكان برونر مسؤولا رفيع المستوى في الجستابو (الشرطة السياسية في الدولة النازية بألمانيا) خلال الحرب، واليد اليمنى لأدولف أيشمان، رئيس إدارة الشؤون اليهودية في الجستابو. واشتهر برونر وأقرب مساعديه بكونه مسببا لمشاكل الإبادة، حيث أشرفوا شخصيا على اعتقال وترحيل وقتل عشرات الآلاف من اليهود في فرنسا وسلوفاكيا واليونان ودول أخرى. وقد عرف أيخمان، الذي حوكم وشنق لاحقا في القدس لدوره فيما يعرف بـ “الهولوكوست”، برونر بأنه “أفضل رجاله”.

اختبأ برونر لفترة وجيزة في ألمانيا بعد الحرب، ولكن شعر في العام 1954 أن الحبل يضيق حول رقبته، خاصة عندما حكمت عليه محكمة فرنسية بالإعدام غيابيا. لذا هرب إلى مصر في زمن جمال عبد الناصر، وبدأ حينها إقامته في الشرق الأوسط والتي لم تنته إلا بوفاته بعد نصف قرن.

لم يخدم برونر النظام المصري بتاتا، حيث تم ترحيله من القاهرة بشكل سريع نسبيا، وعلى الرغم من أن عبد الناصر وظف العديد من الخبراء الألمان في مجالات العلوم العسكرية والصواريخ، وكذلك بعض خبراء الأمن الداخلي، إلا أنه لم يكن بحاجة إلى متخصصين في الإبادة الجماعية. وقد هرب برونر إلى سوريا، وحصل هناك على إذن عمل وانضم إلى المشهد المزدهر لتجار السلاح النازي في دمشق عام 1955. وأقام في المبنى رقم 22 في شارع جورج حداد كمستأجر من الباطن من الضابط الألماني العنيف كورت ويتزك، والذي عمل مستشارا للحكومة السورية. وبعد بضع سنوات، دس برونر على ويتزك لدى المخابرات السورية، وبالتالي حكم على صاحب المنزل بالاعتقال والتعذيب في سبيل حصوله على الشقة بأكملها لنفسه، بحسب كاتب التقرير لدى “نيولاينز”.

تفاصيل أعمال برونر في دمشق خلال فترة الخمسينيات يكتنفها الغموض، فقد زعمت الروايات منذ ذلك الحين أنه كان يدير الفرع الدمشقي للنازية الدولية السرية بقيادة الرايخليتر مارتن بورمان، الذي لقى حتفه في عام 1945، وأيخمان، الذي كان يكسب لقمة العيش كعامل في الأرجنتين حتى تم القبض عليه من قبل إسرائيل. لقد أكد المؤرخون الأكثر جدية أن برونر عمل في جهاز المخابرات الألماني الغربي كعميل أو حتى كمقيم في دمشق، وتبدو للوهلة الأولى هذه الادعاءات مدعومة بأدلة ظرفية. فنحن نعلم أن دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية لم تتردد في توظيف النازيين، وكثير منهم كانوا محاصرين في بلدان بعيدة عن أعين المتطفلين.

ومع ذلك، تظهر بعض الأدلة الأخرى احتمالية أن برونر لم يكن جاسوسا لألمانيا الغربية، وتثبت وثائق قنصلية ألمانيا الغربية في دمشق تجنب الدكتور جورج فيشر (الاسم المستعار لبرونر) أي اتصال بالقنصلية.

وعلى الرغم من أنه لربما قد قدم بعض المعلومات إلى دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية، فمن الصعب تصديق أنه كان وكيلا أو مقيما دون علم أي شخص في القنصلية بذلك. وقد عمل نازيون آخرون في دمشق لصالح دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية، ولا تحتوي ملفاتهم على أي دليل على تجنيد برونر أيضا.

لكن ما نعرفه عن عمل برونر في دمشق لا يقل إثارة للاهتمام. فقد شارك زملائه النازيين الفارين في تأسيس شركة اسمها OTRACO (شركة أورينت للتجارة). وإلى جانب شركات وهمية أخرى في ألمانيا ودول أخرى، يديرها في الغالب النازيون والنازيون الجدد، كانت أورينت للتجارة واجهة لأعمال مربحة للغاية.

في عام 1959 كان حظه على وشك التعثر، فقد كان عملاء المخابرات السورية يراقبون نشاطه دون علمه، ولم يكونوا سعداء بذلك.

وبينما كان برونر يتاجر بالسلاح، ابتلعت مصر بزعامة عبد الناصر سوريا واندمج البلدان في الجمهورية العربية المتحدة في العام 1958. كان هناك ما لا يقل عن ثلاث أجهزة استخبارات في سوريا، المعروفة باسم المحافظة الشمالية من الجمهورية العربية المتحدة، وكان أكثرها وحشية وأسوأها يعرف باسم “المكتب الخاص”، أسسها عبد الحميد السراج، الرجل القوي للمحافظة الشمالية، وتم تصميمها ككيان ذو قدرات متكاملة له سلطة الإشراف على الأجهزة الأمنية الأخرى. وكان أحد قادة المكتب الخاص، وهو من النوع الغامض المعروف لنا فقط باسم “النقيب لحام”، يملك عددا من الفلل المهجورة والمباني الأخرى في ضواحي دمشق. وبداخلها، تم احتجاز السجناء “لمعاملة خاصة”.

وفي تاريخ غير معروف في أواخر عام 1959، تم القبض على برونر وإحضاره إلى إحدى هذه المنشآت. واتهمه لحام، الذي ربما اشتبه في معاملات برونر الدولية ويعتقد أنه جاسوس، بتهريب المخدرات وأمر بتوقيفه “حتى نهاية التحقيق”. ومع العلم التام بأنه قد لا يخرج من المنشأة حيا، حاول برونر استخدام بطاقته الأخيرة. “كنت مساعد أيخمان”، قال لـ لحام، “وأنا مطارد لأنني عدو لليهود”. فتغير موقف لحام فجأة، قام وصافح برونر. “مرحبا بكم في سوريا”، قال مبتسما: “عدو عدوي هو صديقي”.

أصبح برونر منذ ذلك اليوم مستشارا للشؤون الألمانية في المخابرات السورية. وبمباركة لحام، قام بتجنيد العديد من أصدقائه النازيين. كان نظرائهم السوريون، لحام والعقيد ممدوح الميداني، سوريون يتحدثون الألمانية وتعاطفوا مع نظام هتلر. وجمعا معا معلومات إستخباراتية عن الألمان والنمساويين الذين عاشوا في سوريا، واختلسا عمولات ضخمة في هذه العمليات.

في الوقت نفسه، خدم برونر المخابرات السورية كمدرب للتعذيب النازي وأساليب الاستجواب. كان يسافر كل يوم إلى وادي بردى، وهو حي يقع في ضواحي دمشق، حيث بدأ الضباط السوريين في أساليب الجستابو وعلمهم التحدث باللغة الألمانية. من المفترض أن بعض قادة المخابرات السورية سيئي السمعة في المستقبل، مثل الجنرال علي دوبا، قائد جهاز الأمن العسكري، أقوى وكالة استخبارات في سوريا من 1973 إلى 2000، كانوا من طلاب برونر. وعلى الرغم من أن هذا لم يثبت بشكل كاف، فإن هناك مراقبين ينسبون إلى برونر اختراع ما يسمى بالكرسي الألماني، وهو جهاز تعذيب شنيع للغاية لا يمكن وصفه.

ما لم يدركه برونر هو أنه، كما حصل قبل ذلك بعامين، كان جهاز استخبارات معاد يراقبه في الخفاء، ولكن هذه المرة دون نية تجنيده، وإنما بدافع الرغبة بالانتقام من “الهولوكوست”، فقد كان عملاء “الموساد” يلاحقون برونر في قلب العاصمة السورية بنوايا قاتلة.

بعد فترة وجيزة، تلقت تل أبيب معلومات أخرى من فرانز بيتر كوبينسكي، وهو نازي جديد، وعمل بائعا استخباراتيا متجولا في المنطقة العربية. وإلى جانب هذه المصادر وغيرها من المصادر المتاحة، علم “الموساد” أن برونر كان يعيش في الطابق الثالث من المبنى 22 شارع جورج حداد تحت اسم مستعار وهو “جورج فيشر”.

الأخبار المتعلقة باختباء برونر في سوريا وصلت في توقيت مثالي لـ”الموساد”. وربما تم تجاهل هذا الأمر في عام 1958، حيث كان “الموساد” التابع لإيسر هاريل غير مبال بالصيد النازي في الخمسينيات من القرن الماضي.

بسرعة كبيرة، قرر “الموساد” أنه من الصعب جدا اختطاف برونر من دمشق. وهكذا ألغيت خطط تقديمه للمحاكمة واستبدلت بمخطط لاغتيال (أو بلغة الموساد: هجوم عقابي). وأعطى هاريل المهمة لوحدة صغيرة تسمى “مفراتس” (الخليج) متخصصة في العمليات السرية، وخاصة في الدول العربية، وكان رئيس الوزراء المستقبلي إسحاق شامير، الذي كان يترأس الوحدة في ذلك الوقت، قد ملأها برفاقه من الحركة اليهودية المتطرفة السرية “Lehi”، وجميعهم لديهم خبرة كبيرة في عمليات الاغتيال أثناء الحرب السرية لتأسيس ما يعرف بإسرائيل حاليا قبل عام 1948.

اختار شامير لهذه المهمة أحد المحاربين القدامى في “Lehi”، وهو متحدث أصلي باللغة العربية لا نعرفه إلا باسمه الأول “نير”، وقد وصل هذا القاتل المتمرس إلى دمشق خلال عيد الأضحى في أيار/مايو 1961، مستغلا صخب العيد للتجسس سرا على برونر. وعند وصوله إلى شارع جورج حداد، الذي كان حينها غير محروسا، صعد السلالم وطرق باب برونر، وأخبر الأوروبي المشبوه أنه يبحث عن شخص يدعى السيد طبارة. برونر، الذي كان يرتدي رداء الحمام، تمتم بشيء وأغلق الباب، قرر نير عدم قتله على الفور لأن أوامره كانت فقط لجمع المعلومات الاستخبارية ولم يكن لديه طريق للفرار. وفي زيارته الثانية لدمشق في أيلول/سبتمبر من ذلك العام، تم استهدافه بطرد مفخخ. ولكن بدلا من إعطاء الطرد إلى برونر شخصيا أو تركه أمام بابه، ارتكب نير خطأ فادحا بإرسال القنبلة عبر البريد.

اتخذ برونر احتياطاته، حيث فتح الطرد بأداة طويلة في خطوة ربما أنقذت حياته. وبعد أيام قليلة، قرأ شامير ورئيسه هاريل في الصحافة العربية أن “أجنبيا أصيب في مكتب البريد الرئيسي في دمشق”. وقال ضابط مخابرات كبير في الجمهورية العربية المتحدة لمصدر إسرائيلي إن الضحية كان رجلا يدعى جورج فيشر “له ماض من النشاط ضد اليهود”. وبعد أن أدركوا فشلهم، قرر شامير وزملاؤه قادة “الموساد” ترك برونر وشأنه.

لقد فقد برونر إحدى عينيه في هجوم الطرد ذلك. وهدده حظه بالخيانة مرة أخرى بينما كان يتعافى في غرفة مشددة الحراسة في المستشفى، هذه المرة بسبب التطورات العاصفة في السياسة السورية. ففي 28 أيلول/سبتمبر من العام 1961، استيقظ سكان دمشق على أصوات الشاحنات العسكرية والأعمدة المدرعة: “إنه انقلاب ضد مصر”. وسرعان ما ظهرت “القيادة العربية العليا للثورة” على الراديو وأعلنت فك الارتباط الكامل مع القاهرة. وعلى الرغم من أن عبد الناصر كان يتمتع بشعبية كبيرة في سوريا، إلا أن العديد من مواطني المحافظة الشمالية كانوا يعتزون بهويتهم السورية، ويستاؤون من موجات ضباط الشرطة والبيروقراطيين المصريين الذين تم إرسالهم من القاهرة لإدارة جميع جوانب حياتهم وعملهم. رحلّ النظام الجديد جميع “الضيوف” المصريين واعتقل العديد من شركائهم السوريين، بما في ذلك السراج، رئيس المخابرات القوي.

وكما هي العادة بعد الانقلابات، استهدف الحكام الجدد في دمشق أتباع النظام السابق الأجانب. وعندما أطلقت الحكومة المؤقتة سراح السجناء السياسيين وألغت جهاز السراج، وجه المتحدث باسمها انتقادات لاذعة بشكل خاص إلى “المرتزقة الألمان” في الجمهورية العربية المتحدة. كان برونر مستلقيا على سريره في المستشفى مرعوبا عندما قرأ في الصحف السورية واللبنانية أن “النظام السابق أقام دولة بوليسية لا ترحم، مع جواسيس وجلادين دربهم خبراء نازيين”.

ووعدت إدارة الرئيس مأمون الكزبري الجديدة بنشر كل التفاصيل في “كتاب أسود” سيظهر قريبا. وفي هذه الأثناء، ومن مكتبه في فرانكفورت، أدرك باور الذي لا يعرف الكلل الفرصة، وطلب رسميا من النظام الجديد تسليم برونر. لكن قنصل ألمانيا الغربية في دمشق لم يكن متفائلا، وقد حذر المدعي العام من أنه لن يجرؤ أي نظام سوري، حتى حكومة كزبري الليبرالية نسبيا، على تسليم شخص يعتبر “عدوا لإسرائيل”.

وكان القنصل على حق، فبالرغم من أن بعض الشهادات تظهر أن النظام الجديد قد فكر لفترة في محاولة سجنه بسبب جرائمه ضد الشعب السوري، إلا أن دمشق لم تفكر بتاتا في تسليم برونر. لكن الهارب النازي أنقذ مرة أخرى بلعبة العروش في مجمع المخابرات الدمشقي. وعلى الرغم من أن السراج وميداني فقدا مسيرتهما المهنية وتأثيرهما، إلا أن لحام، الراعي المباشر لبرونر، تمكن من العثور على وظيفة مربحة في جهاز المخابرات العسكرية الذي تم تشكيله حديثا مقابل إدانته “لجرائم السراج ورعاته المصريين”، وأقنع القادة الجدد في دمشق أن برونر يمكن أن يكون أيضا شاهدا ممتازا ضد النظام السابق.

ومع مرور الزمن، استأنف برونر وظيفته القديمة كعميل استخبارات ومدرب تعذيب كما لو لم يحدث شيء، وارتفعت مكانته إلى مستوى أعلى عندما تزايد استبدال نظام ما بعد الانقلاب “الليبرالي” نسبيا بسلسلة من حكومات البعث. ودللت سلسلة من قيادات البعث، من أمين الحافظ وصلاح جديد إلى حافظ الأسد، برونر بمنحه مرتبات ومزايا عالية مخصصة لرعايا الحكومة. وفي الستينيات، استمتع بسيارة مع سائق، ورحلات فاخرة في جميع أنحاء سوريا وزيارات من شخصيات كبيرة في الحكومة.

نسيت إسرائيل أيضا أمر برونر، ففي أواخر الستينيات، قررت حكومة ليفي إشكول التخلي عن عمليات الصيد النازي. واعتبرت المعلومات المتعلقة بالنازيين في تلك السنوات غير مهمة لدرجة أن الملخصات حول هذا الموضوع ظلت عالقة لعدة أشهر في مجلدات قبل أن تصل إلى المرسل إليهم. وفي إحدى الحالات، استغرق الأمر مكتبين لـ”الموساد” عدة أشهر لتبادل معلومة واحدة عن برونر، على الرغم من أنهما كانا لا يفصل بينهما سوى 100 ياردة.

ظهر برونر مجددا ولفترة وجيزة على الرادار الإسرائيلي في العام 1977، عندما خسرت حكومة حزب “العمل” الانتخابات واستبدلت بإدارة يمينية بقيادة “الليكود” بزعامة مناحيم بيغن. اهتم بيغن كثيرا بالهولوكوست، التي ماتت فيها عائلته بأكملها، ونتيجة لذلك أمر “الموساد” بإعادة الصيد النازي، وتقديم أهم المجرمين المتبقين إلى العدالة بـ “اختطافهم، وإذا ثبت استحالة ذلك، فبقتلهم”.

وكان إسحاق حوفي، رئيس “الموساد”، غير متحمسا ولكنه مطيع. فأرسل العديد من العملاء إلى دمشق ليتبينوا مكان وجود برونر. كان أكثرهم حيوية مواطن بوسني معروف بالاسم المستعار “Stiff”، والذي أصبح صديقا لبرونر وزار منزله في شارع جورج حداد. وأرسل حسب الأصول إلى تل أبيب خريطة للمباني. ومع ذلك، على عكس عام 1961، قرر رئيس وحدة العمليات في الموساد أن إرسال عملاء لقتل برونر أمر خطير للغاية. كان يفضل الإستراتيجية الأكثر أمانا لإرسال رسالة مفخخة بالبريد. وأخبر ستيف “الموساد” أن برونر، الذي أصبح الآن نباتيا صارما، كان مشتركا في مجلة نمساوية عن الطب الطبيعي، فاستخدم رجال حوفي هذه الحقيقة لخداع برونر وإرسال رسالة مفخخة له متنكرة كعدد خاص من المجلة. لكن مجددا، كانت كمية المتفجرات صغيرة جدا، وعندما فتح برونر الظرف في شقته، فقد عدد من أصابعه في الانفجار لكنه ظل على قيد الحياة.

وفي النهاية، لم يعاقب برونر من قبل إسرائيل، إنما من قبل الأجهزة الأمنية السورية الذي خدمها لفترة طويلة، وفق “نيولاينز”، فخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، واصلت الحكومة في دمشق حمايته، وكان ردها المتكرر على العديد من طلبات تسليم المجرمين من النمسا وألمانيا الغربية والولايات المتحدة: “لا يوجد مثل هذا الشخص في سوريا”. ومع ذلك، بعد الحملات الإعلامية، أصبحت دمشق محرجة من وجوده في العاصمة.

واستنادا إلى شهادات حراس برونر للصحفي الاستقصائي الفرنسي هيدي أويدج، فإن دمشق قد حدت بشكل متزايد من تحركات برونر طوال الثمانينيات والتسعينيات، خاصة بعد أن انتهك تعليمات الأسد المباشرة بالابتعاد عن الأنظار، من خلال تقديم لقاءات متكررة لوسائل الإعلام الألمانية والنمساوية والدولية.

كان حافظ الأسد قد قرر أخيرا التخلص من برونر في العام 1996، وأمر بإخراجه من شقته وسجنه إلى أجل غير مسمى في زنزانة تحت الأرض أسفل مركز شرطة المهاجرين. وقال أحد الحراس في شهادته: “أغلق الباب عليه ولم يفتح مرة أخرى”. “لا تقتلوا هذا الخنزير، لكن لا تحاولوا إبقائه على قيد الحياة أيضا”، أمر أحد القادة السوريين الأمنيين السجانين. وفي مقابلات مع أويدج، كشف حراس برونر بأنه لإذلاله، كان عليه أن يختار كل يوم بين بيضة مسلوقة وبندورة، “واحدة من الاثنين”. ويتذكر الحراس أنه كثيرا ما كان يشتمهم ويصرخ في وجههم. مات برونر، المسن والمريض، في نهاية المطاف بعد عام 2001، على الرغم من أن التاريخ المحدد هو محل خلاف. ونقل جثمانه من الزنزانة ودفن سرا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة