لم تجد عاصفة الانسداد السياسي في العراق طريقها نحو الهدوء حتى الآن، فرغم مرور 11 شهرا على إغلاق صناديق الانتخابات النيابية، فإن الخلاف حول شكل ومرشحي الحكومة المقبلة لا يزال قائما بين التيارات السياسية، ويرجع ذلك إلى الخصومة الجارية بينهم، ولاسيما بين “التيار الصدري” من جهة و”الإطار التنسيقي” من جهة أخرى.

يبدو هذا الخلاف بشكل أوضح في إصرار الخصمين التقليديين على موقفهما من شخصية محمد شياع السوداني، على وجه الخصوص والذي طرحته قوى “الإطار التنسيقي” كمرشح وحيد لرئاسة الوزراء، فيما قاد “التيار الصدري” رغم انسحابه من البرلمان حملة ضد هذا الترشيح، اندلعت على إثره اضطرابات مسلحة في 29 آب/أغسطس الماضي.

استمرار تمسك الطرفين بموقفهما، رفع من حدة التوتر الشخصي، وزاد من تساؤلات الشارع حول مستقبل العملية السياسية، وقدرة السوداني على مقاومة هذه الموجات الرافضة له وتحمل نتائجها.

اقرأ أيضا: العراق.. شياع السوداني ورقة “الإطار” ضد الصدر؟

عدم موافقة زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، على تمرير اسم مرشح “الإطار التنسيقي” محمد شياع السوداني، دفع أنصاره إلى اقتحام مركز صناعة القرار السياسي العراقي في “المنطقة الخضراء” في 30 تموز/يوليو الماضي، ودشن خلالها اعتصامات مفتوحة داخل مقتربات البرلمان، لمنع تمرير هذا الترشيح على التصويت النيابي.

مواجهات مسلحة بين حمايات الشخصيات السياسية التابعة لـ “الحشد الشعبي”، ومقاتلي “سرايا السلام”، كانت المصير الحتمي للاعتصامات، ولكن شبح الحرب سرعان ما تضاءل بعد إيعاز الصدر لأنصاره بالانسحاب.

لكن هذا الانسحاب لم يكتب خاتمة الأزمة، في ظل إصرار الطرفين على موقفهما بخصوص شكل الحكومة ومرشحي قيادتها.

رؤية السوداني السياسية تتلخص في تقديمه لمجموعة من الوعود، بحسب حديث مصدر مقرب منه، لـ “الحل نت” (فضل عدم الإفصاح عن هويته)، ومنها تغيير النهج السياسي المعتمد حاليا، وتجاوز نطاق المحاصصة السياسية في توزيع المناصب، إضافة إلى تعهده بإبعاد الدولة عن التدخلات الخارجية والداخلية.

هي وعود تندرج ضمن محاولاته للبروز كعقلية سياسية مستقلة، ولكن هذه الوعود لطالما كانت شعارا لمن سبقه من المرشحين على مدى السنوات الماضية، ولكنها لم ترى الضوء.

قد يهمك: بوابة الولاية الثانية للكاظمي بلقاء بايدن؟

محور الخلاف الحالي الذي يمثله رئيس تجمع الفراتين المنضوي في “الإطار التنسيقي” محمد شياع السوداني، ليس بجديد على الساحة، حيث رفضه محتجي تشرين في العام 2019، بعد أن طرح كبديل عن رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، باعتباره مقرب من “حزب الدعوة” وزعيمه نوري المالكي.

السوداني يحاول حاليا إثبات استقلاليته السياسية، وتبدو محاولاته جلية في طرح برنامجه السياسي أمام مجموعة من أعضاء البرلمان في 20 أيلول/سبتمبر، استجابة لطلبهم بحسب تصريحات مكتبه الإعلامي.

ما بين تمسك الإطار ورفض التيار للسوداني

تمسك “الإطار التنسيقي” و”التيار الصدري” بموقفهما من تسلم السوداني لدفة الحكم، يثير عدة تساؤلات عن أسبابها، خاصة وأنه ليس من الصعب إيجاد بدائل توافقية بين الطرفين، مثل شخصية رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.

إصرار “الإطار التنسيقي” ينبع من إدراكه بأن رفض الصدر وحلفائه السياسيين سيكون حتميا إزاء جميع مرشحيهم، وتاليا فلا داعي لطرح أي شخصية أخرى، والاكتفاء بدعم مرشحه الرئيسي، ومحاولة توفير الأسباب اللازمة لتمرير اسمه، ولا ينبع هذا الإصرار من محاولة الإطار لمناكفة الصدر، بحسب ما يؤكده مصدر مقرب من “الإطار التنسيقي” لـ “الحل نت”.

“التيار الصدري” لا يتفق مع “الإطار التنسيقي” في أسباب إصراره على ترشيح السوداني، ويرجعها بحسب مصدر في “التيار الصدري”، إلى محاولات الأحزاب الموالية لإيران المستمرة لإثارة الحساسية مع مقتدى الصدر، ويسند هذا الرأي إلى رفض قادة الإطار لكافة مقترحات الصدر السابقة، وتمسكهم بالتصعيد.

لكن موقف التيار المتمسك بمطالبه، يعد أيضا أحد أسباب الأزمة، وفي ذلك يذهب المصدر في تصريحه لـ “الحل نت”، إلى التأكيد بأن موقفهم ينبع من رغبة الجمهور بالإصلاح وتغيير الهيكلة السياسية.

تراجع الصدر عن موقفه بخصوص شكل الحكومة أو ترشيح السوداني، سيعتبر تنازل عن رغبات جمهوره وتضحياتهم الأخيرة، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع في شعبيته، وهو ما لا يرغب الصدر الخوض فيه حاليا، بحسب المصدر.

ورغم انسحاب “التيار الصدري” من البرلمان، واعتزال زعيمه للحياة السياسية منذ 29 آب/أغسطس الماضي، فإن قرار انسحابه لا يعني انتهاء الأزمة، وتوقف أتباعه عن التعبير عن مطالبهم وبطريقتهم الخاصة.

عودة الاقتتال الشيعي شيعي

استمرار التصعيدات السياسية، يعزز المخاوف من عودة “الاحتراب الداخلي” وتطوره بشكل أوسع من المواجهات التي شهدها مساء يوم 29 آب/أغسطس الفائت، والتي اعتبرت منعطفا وسابقة جديدة في عراق ما بعد عام 2003.

مجلة “فورن بوليسي” الأمريكية، أكدت هذه الاحتمالات في تقريرها المنشور في 15 أيلول/سبتمبر الجاري، وترجع أسبابها إلى زيادة التدخلات الإيرانية في الشأن الداخلي للبلاد، وهي تدخلات تندرج ضمن خانة محاولاتها لإنقاذ نفوذها عبر أذرعها السياسية، ولكن طهران لم تدرك بحسب التقرير، نتائج هذه التدخلات بشكل كلي إلا بعد فوات الأوان وحدوث الصدام المسلح الذي كانت تتجنبه.

“الاحتراب الداخلي” سيكون واقعا حتميا بلا شك وسط جو التزمت السياسي السائد حاليا في العراق، بحسب حديث أستاذ علم الاجتماع السياسي سلام العزاوي، لـ “الحل نت” ويزيد من احتماليته القدرات العسكرية التي يمتلكها الطرفين، عبر أذرعهما المسلحة.

احتمال الحرب الشيعية- شيعية، يتوقف على مدى توافق الخصمين بعد اللقاء الذي يزمع بأنه سيجمعهم قريبا بوساطة كردية بحسب العزاوي، وإن الإطار سيسعى إلى تقديم تنازلات للصدر بشكل سري وبعيد عن الماكينات الإعلامية، من أجل ضمان عدم تأجيج الشارع أمام خطوتهم التالية.

احتمالية الصدام مرتبطة بمدى تجاوب الصدر مع هذه التنازلات، أو تظاهرات الذكرى السنوية لاحتجاجات تشرين عام 2019، خاصة وأن تياره أعلن سابقا عن نيته بالمشاركة في هذه التظاهرة بصفته جزءا من الشعب العراقي.

هل يقبع الحل في انتخابات برلمانية جديدة؟

من المستبعد أن يتوافق الخصوم على مقترح حل البرلمان، فقد خاض الطرفين مناكفات سابقة وصلت حدتها الى رئاستي القضاء الأعلى والمحكمة الإتحادية، والتي أقرت بدورها عدم صلاحية تدخلها في هذا الشأن.

الاضطراب السياسي الحالي، يبعد بدوره مقترح حل البرلمان، حيث يرى أستاذ العلوم السياسية المتقاعد عثمان الموصلي، خلال حديثه لـ “الحل نت”، بأن المقترح القائم على إجراء انتخابات مبكرة هو مجرد محاولة من الصدر لتعديل ميزان قوته داخل البرلمان، وتحفيز جمهوره لمشاركة قوية تؤهل تياره لتحقيق النصاب القانوني اللازم، لتشكيل حكومة الأغلبية التي يطمح لها.

على النقيض يقف “الإطار التنسيقي” على الحافة الأخرى، ويرفض خوض الانتخابات، فهو يدرك بأن تراجع شعبيته سيعني بلا شك خسارة انتخابية أخرى، وربما أفدح من الخسارة الماضية، بحسب الموصلي.

إعادة الانتخابات البرلمانية سيكون ضربا من المستحيل، بينما تقبع التوافقية كخيار رئيسي، سواء توافق “الإطار التنسيقي” مع حلفاء الصدر السنة والكرد، ولكن هذا التوافق سيبقى سياسيا، ولا يمنع انفجار الشارع إذا ما أخذت فيه موافقة الصدر، أو المضي في الأزمة حتى نيل رضا الصدر على إحدى الشخصيات المرشحة.

معهد “الشرق الأوسط” في واشنطن، طرح هذا الرأي في تقريره المنشور في 15 أيلول/سبتمبر الحالي، ولكنه يعتقد أن حل البرلمان أو التوافق بهذا الخصوص، سيكون ضربة حظ يصعب تحقيقها، بسبب تمسك الطرفين بموقفهما، رغم أنه الخيط الذي قد يمنع انفجار الوضع.

هل ينجح السوداني في ترشيحه؟

الأدلة الحالية تؤكد صعوبة فوز السوداني بمنصب رئاسة الوزراء، ووفق القراءة الحالية فإن الإطار أدرك هذا الأمر كما أدرك نتائجه اللاحقة، ولكنه يحاول التريث قبل التنازل عن مرشحه، خاصة وأن خطوتهم والتنازل الحالي عن السوداني، ستوضع في خانة ضعفهم سياسيا وشعبيا.

السوداني تاليا يتمسك بخيط العنكبوت كما يصفه أستاذ الاجتماع السياسي سلام العزاوي، ويرجح ترشيح شخصية أخرى، بعد فشل مرشحهم الحالي في نيل الأصوات اللازمة لفوزه.

الاعتقاد الحالي أن الأزمة الحالية هي مجرد مناكفات بين الخصمين التقليديين في سبيل وصولهم الى سدة الحكم، فـ “الإطار التنسيقي” يرفض التخلي عن حلم العودة لرئاسة الوزراء، فيما يصر الصدر على طموحه بتشكيل حكومة أغلبية، وإن اعتزل الجانب السياسي، فإنه لا يزال حاضرا عن طريق حلفائه والشارع.

مأزق سياسات النخبة لا يزال بعيدا عن التوافق أو الإجماع، ويفتقر إلى قوة صناعة ملوك الساحة السياسية في العراق، وسط مساعي من أجل تقريب وجهات النظر بين النخبة الحاكمة لتفادي الكارثة أو بدأ مرحلة سياسية جديدة على الأقل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.