فوارق الأجور والدخل بين الذكور والإناث تشكل تحديا كبيرا للعلوم الاقتصادية وللدراسات القانونية على حد سواء، حيث تعد من الخصائص الملازمة لمجمل أسواق العمل والتوظيف في كل دول العالم، وتدل على عجز الإصلاحات الحقوقية الهادفة لإلغاء التمييز بين الرجال والنساء عن تحقيق المساوات الاقتصادية الفعلية بينهم. أما في لبنان، فنادرا ما يهتم الاقتصاديون أو السياسيون بالمسألة الجندرية، وعلى الرغم مما قد يُسجّل من تقدّم على صعيد بعض التشريعات لمكافحة هذا التمييز.

“هو شاب ولديه مصاريف على عائلته، أما أنا فبرأيه أعمل لأتسلّى وليست لدي مسؤوليات وفواتير أسددها في نهاية الشهر، هو شاب وأنا صبية وعليّ تقبل التمييز بيننا”، هكذا تختصر ندى محمد (35 سنة، إجازة في علم النفس) معاناتها مع التمييز في الأجر بينها وبين زميلها في العمل في أحد المراكز الصحية في لبنان.

 قد يهمك: “تفاوت الأجور بين الجنسين”… مشكلة عالمية جوهرها التمييز

ندى وزميلاتها اضطررن إلى تحمّل هذا التمييز، بحجة أن زميلهن متزوّج ولديه مسؤوليات، مع أنه لم يكن هناك فرق في دوام العمل والكفاءة والمسمى الوظيفي، ولكن لماذا لا يفكر صاحب العمل نفسه بأن الفتيات أيضا، هن معيلات لأهلهن ويساعدن أزواجهن في المصاريف ويتحملن مسؤوليات تفوق أحيانا أعباء الرجال؟، تسأل ندى.

ندى واحدة من النساء اللواتي التقاهم “الحل نت” للوقوف على هذا الموضوع، وقد تبيّن من خلال حكاياتهنّ استمرار هذا التمييز على أساس الجنس في الأجور وفي المعاملة في أماكن العمل في لبنان.

من أجل استمرار التبعية الاقتصادية

لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا ” الإسكوا” ومقرها الرئيسي في بيروت، بينت في تقرير لها حجم التمييز ضد النساء لناحية الأجور والتعليم والوصول إلى مناصب عالية وإدارية، في حين بلغت نسبة النساء 52.6 في المئة من السكان المقيمين الذين هم في سن العمل، ويشير التقرير إلى أن أقل من 30 في المئة منهن يشاركن فعليا في سوق العمل، ويدل ذلك على احتمال ارتفاع التبعية الاقتصادية للمرأة وعلى تدني العوائد الاقتصادية للاستثمار في التعليم، وأن القوالب النمطية للجنسين لا تزال تؤثر في اختيار المرأة لمهنتها حيث أن 9 من بين 10 نساء يعملن في قطاع الخدمات.

لا يزال عمل النساء في قطاعي الصناعة والزراعة محدودا جدا، وقد تعود المشاركة المتدنية للمرأة في القوى العاملة إلى أسباب عدة منها استمرار التفاوت في مستوى الأجور بين الرجال والنساء، إذ يظهر التقرير أن متوسط أجور النساء اللبنانيات أقل بنسبة 6.5 في المئة من أجور الرجال اللبنانيين.

وهو ما تشرحه هبة خالد (26 سنة، ماستر حقوق) في حديثها لـ “الحل نت”، قائلة، ما إن يروك فتاة حتى يرموا عليك الكثير من المهمات من دون أي شفقة، يعتقدون أن الفتاة لن تعارض التمييز في الأجر وفي الجهد المطلوب، وستعمل بصمت لأنها بحاجة للعمل والنقود ولأن شوكتها مكسورة. وتضيف الخالد أن صاحب عملها كان يفرض عليها دوام عمل طويلا، يتخطى الساعات الـ 8 المنصوص عليها في قانون العمل اللبناني، مع يوم عطلة واحد فقط بحجة ضغط العمل وبراتب متدن جدا، هو مليون و800 ألف ليرة (أقل من 50 دولارا)، بذريعة أنها في مرحلة تجريبية، وكلما كانت تطالب بزيادة، نظرا إلى الأوضاع المعيشية المتردية، كان رب العمل يتحجج بأعذار واهية لها.

صمدت الخالد في العمل شبه المجاني طيلة 4 أشهر، على أمل أن تتحسن الأمور، لكن ما إن دخل الشاب العشريني الجديد العمل، حتى اختلف الأمر والمعايير، فأصبحت الفترة التجريبية شهرا واحدا لا 4 أشهر، براتب أعلى، هو ضعف ما تتقاضاه الخالد وبالدولار (مئة دولار)، برغم أن المجهود الذي كانت تبذله كان شبيها بما يفعله الزميل الجديد.

نصف أجر زوجها!

منى الخضر (24 سنة) وهي لاجئة سورية في لبنان، تعمل في ورشة زراعية في منطقة عرسال البقاعية، وفي الورشة ذاتها يعمل زوجها، وبالدوام ذاته، لكن صاحب الورشة كان يعتمد استراتيجية خاصة، إذ تتقاضى النساء 50 ألف ليرة في اليوم الواحد (نحو دولار وربع الدولار)، فيما يتقاضى الرجال 100 ألف ليرة ليوم العمل. (ويتقاضى الأطفال نصف ما تتقاضاه النساء).

كانت حاملا، وبرغم ذلك لم تتوقف يوما واحدا عن العمل، تقول الخضر في حديثها لـ “الحل نت”، وحين ولدت طفلها اضطرت إلى التغيّب بضعة أيام لتعتني به وبنفسها وحين عادت إلى العمل، أخبرها صاحب العمل بأنها مطرودة ولم يدفع لها الأجور المتراكمة، وحين حاولت الدفاع عن نفسها، بدأ بالصراخ عليها وشتمها أمام جميع العمّال، معتبرا أنها كسولة وغير مطيعة ولا تنفع في العمل.

معاناة منى الخضر تنحسب على معظم الورش الزراعية في لبنان، بحسب الجولة الميدانية التي أجراها “الحل نت” في المنطقة، حيث يكون على النساء تقبّل هذا التمييز بصمت، من أجل تأمين لقمة العيش، علما أن معظم العاملين في هذه الورش هم من اللاجئين واللاجئات الذين يسهل استغلالهم وانتهاك حقوقهم، لأن لا أحد يحميهم، لا سيما النساء منهنّ.

بيان صادر عن “مفوضية اللاجئين” و”برنامج الأغذية العالمي” ومنظمة “اليونيسف” أشار إلى تأثير الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي يشهدها لبنان بشكل خاص على العائلات اللبنانية واللاجئة الأكثر فقرا. 

فقد كشفت النتائج الأولية التي نشرتها الأمم المتحدة لتقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان لعام 2021، عن وضع بائس يُرثى له، إذ إن تسعة من أصل كل 10 لاجئين سوريين، لا يزالون يعيشون اليوم في فقر مدقع.

ووفقا للتقييم، فقد واصل غالبية اللاجئين، خلال العام الحالي، الاعتماد على استراتيجيات مواجهة سلبية للبقاء على قيد الحياة، مثل التسول أو اقتراض المال، أو التوقف عن إرسال أطفالهم إلى المدرسة، أو تقليص النفقات الصحية، أو عدم سداد إيجار المنازل أيضا. 

التقييم يشير إلى أن عام 2021، شهد ازدياد عدد أفراد الأسر الذين اضطروا إلى قبول وظائف زهيدة الأجر أو شديدة الخطورة أو نوبات عمل إضافية، لتأمين الدخل نفسه الذي كانت الأسرة قادرة على توفيره عام 2020.

استراتيجيات المواجهة هذه تؤثر بشكل سلبي في القدرة على التأقلم وعلى توليد الدخل في المستقبل، ما يجعل أسر اللاجئين أكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي، وأكثر اعتمادا على المساعدات الإنسانية.

أجر أقل وجهد ضائع

فاطمة محمد (45 سنة) أو أم أحمد كما يطلق عليها، تستيقظ عند الرابعة فجرا كل يوم، تتوجه إلى بقراتها الخمس للحصول على الحليب المعدّ للبيع. تقسّم الغلة على أوان بلاستيكية خاصة، وتحملها وتمضي لبيعها إلى البيوت في قريتها في البقاع الأوسط. “باخد شي نقلتين بالنهار، بحملن عإيديي وببيعن”. زوج فاطمة لا يعمل، “إنه الشاويس” تقول ضاحكة، خلال حديثها لـ “الحل نت”، بإن زوجها يأخذ منها ما جنته من مال في كل مساء، وحين تحتاج إلى النقود لشراء حاجياتها يرفض أحيانا إعطاءها، لأن برأيه هذا ماله وتعبه.

عناية يوسف (25 سنة، ماستر علوم سياسية) تعمل محاسبة في أحد المحال التجارية، وتتحمّل الإذلال والإهانة برغم ما تملكه من كفاءة، لأن فرص العمل في مدينتها طرابلس قليلة وصعبة، تقول يوسف في حديثها لـ “الحل نت” إنهم في العمل ينظرون إليها بدونية، فالرجال هم أصحاب القرار وهم الأذكياء، بينما هي فبرأيهم ناقصة عقل. إذ يقومون بعّد النقود بعدها بالرغم من أنها فعلت ذلك بنفسها، لأنهم لا يثقون بها، بحسب تعبيرها، وهذه الحجة التي كان صاحب العمل يتمسك بها لإعطائها أجرا أقل من زملائها الشبان. طالبت عناية مرارا برفع راتبها لأن مسؤولياتها كثيرة فهي المعيل الوحيد لعائلتها، لكن صاحب العمل يرفض إعطائها سوى 3 ملايين ليرة لبنانية (أقل من مئة دولار) في الشهر.

بحث نشرته المفكرة القانونية، وهو جزء من أطروحة للماجستير في كلية الاقتصاد في جامعة القديس يوسف في بيروت عام 2019، فعلى الرغم مما قد يُسجّل من تقدّم على صعيد بعض التشريعات لمكافحة التمييز في الأجور بين الجنسين (مثل تعديل المادة 26 من قانون العمل سنة 2000 التي أصبحت تحظر التمييز ضد المرأة في ما يخص نوع العمل، مقدار الأجر، التوظيف، الترقية، الترفيع، التأهيل المهني والملبس فقط)، لا يزال لبنان يعاني من اختلال فاضح في الدخل بين الجنسين، وفقا لمؤشر التفاوت بين الجنسين الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. فيحتل لبنان المرتبة 135 عالميا، ويعتبر أداؤه سيئا مقارنة بالدول العربية المجاورة (المرتبة الثالثة ما قبل الأخيرة على الرغم من أن التحصيل العلمي للإناث ومشاركتهن في القوى العاملة في لبنان أعلى نسبيا).

الأجور في الدول العربية لا يتم تقييمها على أساس الكفاءة وإنما يتم تبرير الفروق في الأجور بين الجنسين، بأن دخل النساء للأسرة هو دخل إضافي يمكن الاستغناء عنه، أما دخل الرجال فهو دخل أساسي. كما أن هناك نمطا اجتماعيا سائدا بأن الرجل هو المعيل للأسرة لذا يجب أن يكون دخله أكبر، حسب رأي أصحاب الأعمال، وذلك بحسب تصريح للدكتورة سلام سعيد الخبيرة في الشؤون الاقتصادية، نقله موقع “دويتشه فيله” الألماني، حيث تؤكد بأن هذا يحدث أيضا في أوروبا وألمانيا ولكن بنسبة تختلف كثيرا عن الدول العربية.

في سبيل تحقيق المساواة بين الجنسين بشكل كامل وعادل، تقول سعيد، على الدول أن تتدخل لفرض قوانين على القطاعين العام والخاص بشكل متساو، كما يجب عليها أيضا أن تقنن العمالة غير الرسمية، حتى تتمكن النساء في هذا القطاع الكبير من الحصول على حقوقهن بالأساس، ومن ثم الحصول على المساواة في الأجور مع الرجال، وتضيف هناك طريق طويلة من النضال تنتظر النساء، ولا يمكن أن تتحقق المساواة في الأجور إلا بعد تحقق المساواة بشكل عام.

كما تُرجع سعيد أسباب حدوث الفرق في الأجور بين الرجل والمرأة إلى أن النظام الاجتماعي بالأساس يمنح الرجال سلسلة من المميزات منها، التعليم وفرص أكبر للسفر وجمع الخبرات، وهو ما يجعل أيضا الحكم على كفاءة المرأة في ظل نظام اجتماعي غير عادل للمرأة ظلما في حد ذاته. وترى أنه يجب القضاء على النظام السلطوي الأبوي جنبا إلى جنب مع المطالبات بالمساواة في الأجور.

اقرأ أيضا: من مديرة مصرف إلى “نسوان الفرن”.. ما هي حكاية اللبنانية جنان الجميّل؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.