حدة الأعمال القتالية بين القوات الروسية والأوكرانية، تصاعدت خلال الأيام القليلة الماضية، بعد أن هدأت وتيرتها لعدة أسابيع، مشفوعة بحركة دبلومسية نشطة من قبل قوى إقليمية وأممية وفي مقدمتها تركيا، التي نجحت في إقناع الطرفين بالتوصل إلى اتفاق في تموز/ يوليو الماضي، ضمن استمرار تصدير شحنات الحبوب الأوكرانية والمنتجات الغذائية الروسية إلى مختلف دول العالم؛ للتخفيف من أزمة الغذاء العالمي؛ فيما لا تزال أسواق الطاقة تشهد انتكاسات خطيرة بفعل تداعيات هذه الحرب.

روسيا والمأزق الأوكراني

ارتفاع وتيرة المواجهة بين الطرفين، من وجهة نظر موسكو، تعود إلى تزويد الغرب أوكرانيا بالأسلحة؛ وهو ما يستفز روسيا التي بدأت تواجه صعوبات في إنهاء المرحلة النشطة من عمليتها العسكرية، بحسب حديث الباحث في الشأن الروسي، طه عبد الواحد، لـ “الحل نت”، والذي توقع أنّ يطول أمد الحرب وتداعياتها الاقتصادية على مختلف دول العالم، كما أنّ تأثير الحرب الأوكرانية سلبيا للغاية على علاقات روسيا مع دول العالم وموقفها أمام المجتمع الدولي.

روسيا كانت تتوقع أن تتمكن خلال فترة محددة من تدمير القدرات القتالية لأوكرانيا، والانتقال إلى مرحلة الإجبار على السلاح، لكن إمدادات السلاح الغربي خلقت ظروفا جديدة ربما لم تكن في الحسبان، وفيما يتعلق بأهداف موسكو من استمرار حربها على كييف، يجيب عبد الواحد المقيم في العاصمة الروسية موسكو، بأن روسيا تريد من أوكرانيا أن تكون خارج الأحلاف، وهي نقطة محورية بالنسبة لها، بمعنى أن تتخلى عن فكرة الانضمام إلى “الناتو”، إضافة إلى اعتراف الأوكران بتبعية مقاطعات القرم ولوغانسك ودونيتسك لروسيا الاتحادية.

من وجهة النظر الروسية فإنّ موسكو كانت ترغب بإرغام الغرب على التعامل بجدية مع اقتراحاتها للضمانات الأمنية، وإطلاق نقاشات ثنائية حولها للتوصل إلى صياغة معاهدات دولية جديدة بديلة عن تلك التي لم تعد سارية، مثل معاهدة الأنظمة الصاروخية المضادة للصواريخ، ومعاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، ومعاهدة الأسلحة التقيلدية في أوروبا وغيرها؛ وبالتالي الحفاظ على صيغة تشاركية مع أوربا، عوضا عن تأجيج الصراع الذي تحول مع الوقت إلى نزاع مسلح، بحسب عبد الواحد.

انفجار جسر القرم فاقم الصراع

 حدة الأعمال العسكرية قد تصاعدت بين الطرفين مؤخرا، يأتي على خلفية انفجار مفخخة بجسر شبه جزيرة القرم في الثامن من تشرين الأول/ أوكتوبر الجاري؛ والذي يعتبر رمزا لسيطرة موسكو على شبه الجزيرة التي طردت القوات الأوكرانية منها، وضمتها إلى أراضيها في منتصف عام 2014؛ إذ اتهمت روسيا القوات الأوكرانية بالضلوع في العملية التي أدت إلى انهيار مسرابين في الجسر، وردت عليه بقصف جوي وصاروخي عنيف طال عددا من المدن والبلدات الرئيسية الأوكرانية.

قد يهمك: الحرب في أوكرانيا.. إيران ترسل صواريخ ومسيّرات لروسيا

مع ارتفاع وتيرة الحرب في أوكرانيا، التي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن بدئها في الــ 24 من شباط/ فبراير الماضي؛ ردا على رغبة كييف في الانضمام إلى حلف الناتو؛ والذي اعتبرته موسكو تهديدا لأمنها القومي على حدودها الشرقية، فيما تتجه العمليات العسكرية في أوكرانيا إلى مزيد من التصعيد؛ خاصة مع عدم قدرة أيّ طرف من حسم الصراع والحفاظ على مكتسباته الميدانية، وبالأخص موسكو التي أعلنت رسميا قبل أسابيع، ضم أربعة أقاليم أوكرانية إلى جمهوريتها، وهي، دونيتسك، ولوهانسك، وخيرسون و زاباروجيا؛ لكن واقع الميدان كما يتحدث الأوكران، يشير إلى انسحاب القوات الروسية من مساحات واسعة من تلك الأقاليم.

رفض أوكراني

رئيس تحرير موقع أوكرانيا بالعربي، الدكتور محمد فرج، يرفض قرار الرئيس الروسي بضم الأقاليم الأربعة إلى جمهوريته؛ مؤكدا خلال حديثه لـ “الحل نت” بعدم شرعية القرار وفق القانون الدولي، وأنّ أكبر ردّ عليه كان في جلسة الهيئة العامة للأمم المتحدة؛ إذ رفض ُجل الأعضاء فيها الاعتراف بقرار بوتين.

“القرار الروسي لا قيمة له”، وأنّ مجريات الميدان تؤكد أنّ الأقاليم الأربعة لازالت ساحة للمعارك بين الجانبين، وفق فرج، مدللا على ذلك باستعادة القوات الأوكرانية للسيطرة على مدينة “ليمان” داخل إقليم دونيسك بعد الإعلان بيوم واحد فقط، وأنّ الأوكران سيطروا ايضا بعد الإعلان على مساحات واسعة من إقليم، ومدن وقرى صغيرة في إقليم لوهانسك و75 بلدة من إقليم خيرسون، واعتبر فرج أنّ الميدان هو من يحسم تبعية هذا الإقليم لهذه الدولة أو لغيرها.

فرج أكد بأنّ 24 شباط/ فبراير لن يتكرر، وأنّ القوات الأوكرانية مستعدة لأي تصعيد محتمل من قبل الروس، حتّى وإنّ فكر بوتين بغزو البلاد من الشمال عبر بيلاروسيا، فإنّ القوات الأوكرانية ستكون لهم بالمرصاد.، مشيدا بقدرة القوات الأوكرانية بعد أن شنت هجوما مضادا في أيلول/ سبتمبر الماضي على القوات الروسية، استطاعت من خلاله استعادة السيطرة على أربعة أقاليم كانت القوات الروسية قد احتلتها منذ بدء توغلها داخل الأراضي الأوكرانية، بمساحة تعادل كامل مساحة دولة الدنمارك.

رغم أنّ القوة العسكرية لطرفي النزاع غير قادرة حتّى الآن على الحسم العسكري؛ مع المسوغات التي ساقتها موسكو في بداية غزوها لكييف، توحي أن عملياتها العسكرية لن تكون طويلة الأمد، وأنها ستحقق مبتغاها في فترة قصيرة وتجبر الرئيس الأوكراني زيلينسكي على الانصياع لمطالبها، إلا أن تلك المزاعم، على ما يبدو سقطت مع مرور ستة أشهر من إعلان بوتين بدء حربه على أوكرانيا، فما هي الأوراق المتبقية في يد الروس لحسم الصراع.

موسكو وعوامل القوة

الروس يملكون عوامل قوة من بينها القوة العسكرية، والاقتصادية، وفقا لحديث الباحث طه عبد الواحد، حيث يقول بإن روسيا تمتلك ترسانة عسكرية لا يُستهان بها. لكنه يرى في الوقت ذاته أنّ الجميع سيخرج خاسرا من هذه الحرب، وأنّ الرابح فيها؛ هو من يتراجع أولا أمام الثاني، لكنه في المقابل يشير إلى أنه من الواضح أنّ لا نية حتى الآن لدى الروس أو الغرب بتقديم تنازلات للآخر، فكلاهما يؤكد استعداده للتفاوض لكن حسب شروطه وبما يلبي متطلباته.

كييف.. ماذا لديها على الأرض

أوكرانيا تمتلك العديد من مقومات القوة لمواجهة الغزو الروسي؛ كما يرى محدثنا من كييف الدكتور فرج، إذ أشار إلى أنّ الجيش الأوكراني يحظى بثقة شعبه وأنّ 98 بالمئة من الأوكران واثقون من قدرة قوة جيشهم على ردّ الغزو وحسم الصراع.

هناك قوة بشرية هائلة ضخت في القوات الأوكرانية، وأنّ التعبئة العامة في البلاد استطاعت جمع ضخ أكثر من مليون مقاتل أوكراني في صفوف القوات الأوكرانية، إضافة إلى التسليح النوعي، الذي يصل من الحلفاء الأوربين إلى جانب الصناعة المحلية للسلاح، وهناك عوامل تفوق عديدة للجيش الأوكراني في الميدان؛ من بينها الثقة وعدم مركزية القرار، ما أعطى فعالية دينامكية لتحرك القوات الأوكرانية على الأرض.

فرج  لفت النظر إلى إشادة الصحف الغربية بالاستراتيجة التي يتبعها الأوكران في مواجهة الروس؛ مدللا بما عنونته صحيفة “الغارديان” البريطانية، حينما قالت على صدر صفحتها الأولى “رئيس هيئة الأركان الأوكرانية فاليري زالوجني ينقل الجيش الأوكراني من جيش سوفيتي متخلف إلى جيش عصري”، وهو ما تجسد بقوة في تحرير القوات الأوكرانية لإقليم خاربكوف بهجوم مباغت؛ ما أجبر القوات الروسية على الفرار وترك أسلحتها وذخائرها جانبا، فيما ذكر تقرير للبنتاغون أنّ نصف الدبابات التي تمتلكها القوات الأوكرانية تم اغتنامها من الروس.

الآثار الكارثية على أسواق الطاقة

الأزمة الأوكرانية آثرت بشكلّ كبير على قطاعي الطاقة والغذاء في أوربا والعالم، إلا أنّ الدكتور فرج يرى بأنّ هذه الحرب ستغير مقاربات أوربا في الحصول على الطاقة من خلال سعيها للحصول على بدائل، وأنّ أوربا وصلت إلى قناعة في أن روسيا ستكرر استخدم سلاح الطاقة ضدها، وبالتالي ستفوت الفرصة عليها من خلال استجرار مستهلكاتها النفطية من مناطق أخرى؛ ما سيكون له تداعيات كارثية على الاقتصاد الروسي الذي يعتمد بنسبة 70 بالمئة من قوته على بيع منتجات الغاز.

الأزمة الأوكرانية تسببت أيضا في ارتفاع اسعار المواد النفطية في العالم بشكلّ غير مسبوق؛ وهو ما أسهم في زيادة نسبة التضخم في أوربا والعالم؛ وهي أسواق على ما يبدو لن تكون مستقرة في المدى المنظور؛ وهو ما يعني أنّ إطالة أمد الحرب سيكون له نتائج كارثية.

انعكاسات الحرب الأوكرانية ستكون خطيرة للغاية في المرحلة القادمة، وفق حديث لرئيس قسم الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية بمعهد “جنيف”، الأكاديمي ناصر زهير، لـ “الحل نت” ويقول سيكون هناك مزيد من ارتفاع أسعار الطاقة والغاز الذي سيتضاعف لعدة مرات، ومن ثم أزمات طاقة متلاحقة ستتكبدها الدول النامية، لأن أسعار الغاز العالمية ترتفع في كل العالم؛ وهو ما يؤثر على نمو الاقتصاد العالمي.

قرار “أوبك بلس” الذي اتخذ بعد نقاشات متعددة؛ من أجل زيادة الانتاج، يبدو أنه أخذ جانب من الموازنة، وخشي من انهيار أسعار النفط، وقرارها كان من أجل ضبط الأسواق، ما جعل سعر البرميل ينخفض إلى 90 دولار؛ وهو لا يعتبر سعرا مرتفعا في مؤشرات أسواق النفط، بالمقارنة مع الغاز الذي تضاعفت أسعاره خمس مرات، وأنّ الهجمات على البنى التحتية لخطوط النفط والغاز، سيخلق ضبابية في أسواق الطاقة ويتسبب في ارتفاع أسعار النفط والغاز.

اقرأ أيضا: انعطافة مهمة في الحرب الأوكرانيّة.. ما الذي يجري؟

على ما يبدو أن لا بوادر لإنهاء الحرب في أوكرانيا في ظل تمسك طرفي النزاع بشروطهما، ووفق مقارباتهما لوقف القتال وإخماد أصوات الرصاص التي تصل مفاعليها وتؤثر على مفاصل الحياة في أوروبا والعالم؛ فقمح أوكراينا وزيتها الذي يعادل نحو 48 بالمئة من الإنتاج لن يكون متاحا بالأسعار الرائجة، وكذلك غاز روسيا لن يسهم في تدفأة الأوربيين، ما لم تتوصل أطراف النزاع إلى حل يجبر المعتدي على التراجع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة