بعد مفاوضات دامت لنحو عامين برعاية أميركية، تم توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، في اتفاق أعلن الجانبان فيه أنه مرضِ لهما، لا سيما وأنه حدد مقدار الاستفادة من حقول الغاز المتنازع عليها في المتوسط، فما هي تبعات الاتفاق في المستقبل.

تبعات ونتائج

الاتفاق الذي يدخل حيز التنفيذ في التاريخ الذي تُرسل فيه حكومة الولايات المتحدة، إشعارا يتضمن تأكيدا على موافقة كل من الطرفين، له العديد من التبعات التي تتجاوز الاقتصادية، فهو يمثل تطورا هاما بين لبنان وإسرائيل، على الصعيد العسكري والأمني وكذلك السياسي.

بعد التوصل لهذا الاتفاق، وإعلان الجانبان رضاهما عن بنوده، يمكن القول إن طبول الحرب التي كان يقرعها أحد الجانبين بشكل دوري قد هدأت، فعلى مدار السنوات القليلة الماضية، تبادل كل من الجيش الإسرائيلي و“حزب الله” اللبناني، العديد من التهديدات بشن حرب متبادلة، وآخرها كان قبل أسابيع قليلة من التوصل للاتفاق.

ما يعزز كذلك التهدئة بين الجانبين، هو تصريح رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد” دافيد برنياع قبل أيام، عندما أشار إلى أن الاتفاق يمثّل أول تسوية سياسية تجاه لبنان منذ 40 عاما.

مكاسب للجميع

مركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”، يرى أن تحقق الصيغة التي تم التوصل إليها للاتفاق، فيها مكتسبات لجميع الأطراف المنخرطة في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، سواء طرفي الاتفاق أو الولايات المتحدة، التي قادت وساطة شاقة للتوصل إليه.

على الرغم من أن الاتفاق لا ينص على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بشكل كامل، وإنما يتعلق الأمر بمنطقة تبلغ مساحتها حوالي 860 كيلومترا مربعا، إلا أنه عالج ترسيم منطقة مهمة من الحدود، فنصت على أن يكون الخط الفاصل بين المنطقتين الاقتصاديتين للبنان وإسرائيل هو الخط 1 “خط العوامات” بطول خمسة كيلومترات فقط، على أن يصبح الخط 23 هو الخط الفاصل فيما بعد ذلك، بما يضمن وجود المنطقة الآمنة التي طالبت بها إسرائيل وحصولها على حقل “كاريش” كاملا.

قد يهمك: ما تأثير الشتاء على عمليات الغزو الروسية لأوكرانيا؟

كما يمثل الاتفاق انفراجة سياسية، وصفها محللون بـ“الهامة جدا” بين الجانبين منذ عقود، لا سيما في ظل انعدام المفاوضات السياسية الرسمية بين الجانبين منذ نحو 40 عاما، حتى أن الاتفاق الأخير لم يكن ليتم دون وجود الوسيط الأميركي.

غضب إسرائيلي

تقارير صحفية تحدثت خلال الأيام الماضية، عن إخفاء الحكومة الإسرائيلية لتفاصيل الاتفاق عن الجمهور الإسرائيلي خلال مرحلة المفاوضات، ذلك ما يمكن أن يُدخل الحكومة في مواجهة مع الإسرائيليين، لاسما المعارضين لمضمون الاتفاق.

صحيفة “إسرائيل اليوم“، فسّرت تصرف تل أبيب على هذا النحو، خشية من الجمهور الإسرائيلي، إذ إن الحكومة لا تثق بأن يُبدي الإسرائيليون “النضج لدعم خطوات الحكومة، التي ترى فيها مصلحة لدولة إسرائيل، لكنها وأملت بأن الجمهور سيدعم ذلك حين تأتي اللحظة الأخيرة، وبعد تحقيق الاتفاق، حتى وإن انعدم البديل“.

كاتب المقال الصحفي الإسرائيلي أيال زيسر، وصف طريقة تل أبيب في إدارة المفاوضات بأنه “سلوك غير جدير، ليس لأنه غير ديمقراطي فحسب، بل لأنه يلحق ضررا لا مَرّد له بالمصالح الإسرائيلية“.

من الناحية السياسية، يرى الإسرائيليون في المقابل أن الصفقة ستعزز الاستقرار الإقليمي، فالاتفاق يعني أن البلدين لديهما الآن مصالح اقتصادية في الحفاظ على حالة الهدوء على طول مناطقهما الحدودية المشتركة، وربما يكون هذا هو الأهم بالنسبة لإسرائيل.

وفق محللين تحدثوا لـ“الحل نت“، فإن التقدم السياسي في هذا الاتفاق، يتمثل بأنه يُعتبر اعتراف غير مباشر بوجود إسرائيل من قِبل لبنان، ذلك ما قد يعود بالنفع كذلك على لبنان، الذي سيحظى بدعم دولي أكبر خاصة من ناحية الأزمة الاقتصادية التي يمر بها، وأيضا سيكون هناك تحسّن في الاقتصاد على المدى البعيد، إذا تم استخدام الغاز الذي سيتم استخراجه دون فساد حكومي.

كما يمثل الاتفاق ضربة معنوية لـ“حزب الله“، فمن الممكن أن يتراجع نفوذه خاصة أن لبنان يتجه نحو التهدئة مع إسرائيل، وبالتالي سيخسر حسن نصرالله، بطاقة “المقاومة” التي يلوح بها دائما.

وحول المكاسب المتوقعة من الاتفاق، أشار تقرير لصحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، أن الاتفاق ينظم سُبل استغلال حقول الغاز في شرق البحر المتوسط، ونقلت عن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد، قوله، إن “الصفقة ستعزز أمن إسرائيل وتضمن استقرار الحدود الشمالية، وستضمن ضخ المليارات في الاقتصاد الإسرائيلي“.

وفي وقت تعتبر السلطة في لبنان، الاتفاق بمثابة “انتصار لها“، فإن اللبنانيون يتمنون أن يساعدهم الاتفاق من الخروج من عنق زجاجة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، في حين تتخوف شريحة واسعة، من أن يؤدي الفساد في مؤسسات الدولة إلى ضياع الثروات وعدم الاستفادة منها، بما يضمن المضي قدما من إنهاء معاناة الشعب اللبناني على الصعيد الاقتصادي.

قد يهمك: التهديدات النووية في العالم.. ما احتمالات التصعيد؟

الاتفاق يعطي للبنان الحق في السيطرة على حقل “قانا” للغاز، في وسط المنطقة المتنازع عليها، لكنها تعطي إسرائيل نسبة من أي أرباح مستقبلية من حقل “قانا“، تبلغ نحو 17 بالمئة، بينما تسيطر إسرائيل على حقل غاز “كاريش“، الذي يقع جنوبا، وهو أقرب إلى حقلي الغاز “تامار” و“ليفياثان” المملوكين لإسرائيل.

لبنان يواجه أيضا تحديات كبيرة في الاستفادة من غاز المتوسط، لا سيما وأنه ما زال يعاني من تبعات انفجار بيروت، فضلا عن افتقار البلاد للبنى التحتية اللازمة لاستغلال الغاز، ما يفتح الباب أمام الحديث عن استعانة حكومة بيروت بخبرة الشركات الأجنبية لإدارة الغاز المستخرج من حقل “قانا“.

مكاسب هامة

الصحفية اللبنانية ميساء عبد الخالق، رأت أن الاتفاق سيساهم في مكاسب اقتصادية مهمة للبنان، مشيرة إلى أن الاتفاق يمثّل أيضا أبعاد سياسية وأمنية، فضلا عن المكاسب الاقتصادية لكل من إسرائيل ولبنان.

ميساء قالت في حديث سابق مع “الحل نت“، “لا شك أن الاتفاق سيساهم في مكاسب اقتصادية للبنان، لا سيما في ظل المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها، لأن لبنان وفقا لتصنيف البنك الدولي يعاني أسوأ أزمة اقتصادية منذ القرن التاسع عشر، وبالتالي هذا الاتفاق يعني فتح باب أمل للبنانيين، في ظل انسداد الأفق السياسي نظرا لتعثر انتخاب رئيس جديد للبلاد، علما أن ولاية الرئيس الحالي تنتهي مع نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر الحالي وفي ظل فشل مجلس النواب في إعلان تشكيل حكومة جديدة لأن الحكومة الحالية هي حكومة تصريف الاعمال“.

اتفاق ترسيم الحدود تعرّض للانتقاد من قِبل شريحة واسعة من اللبنانيين، الذين اعتبروا أن الخط 29، هو النقطة الأحق للبنان بالإضافة إلى الخط 23، إذ يعتقد هؤلاء أن الاتفاق وفقا للخط 23، أضاع شيء من حقوق لبنان، لكن عبد الخالق، تشير إلى أن “هذا الاتفاق يبقى أفضل من غيره“.

في اعتقاد عبد الخالق، فإن للاتفاق أبعاد أخرى بعيدة عن الاقتصاد، فجاء الاتفاق ضمانا للاستقرار الأمني على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وحول ذلك تضيف، “الاتفاق أعطى اطمئنان على الحدود، أعتقد أن الوضع على الحدود سيبقى آمنا، يبدو أن التهدئة سيدة الموقف على الحدود بين لبنان وإسرائيل“.

بحسب ما أعلن لبنان، فإن الشركة الفرنسية “توتال“، ستبدأ عملية التنقيب عن النفط والغاز فور الانتهاء من مذكرة التفاهم بين لبنان وإسرائيل في شأن الحدود البحرية الجنوبية، لكن هناك فئة من اللبنانيين بحسب ما تنقل عبد الخالق، تتخوف من تعمل هذه الطبقة السياسية إلى تقاسم الحصص.

عبد الخالق توضّح هذه المخاوف قائلة، “نحن نتخوف في حال بدء لبنان بالتنقيب عن ثروته أن تعمل هذه الطبقة السياسية إلى تقاسم الحصص، نأمل أن يكون النواب الجدد استفادوا من التجارب السابقة وأن يعملوا للصالح العام من أجل خلاص لبنان، من براثن الأزمة الاقتصادية، بيان الرئاسة اللبنانية كان واضحا أن السلطات اللبنانية، اعتبرت أن لبنان أخذ حقه في ملف الترسيم ولبنان راض عن هذا الاتفاق“.

أثار الاتفاق حفيظة شريحة من الإسرائيليين، فقد شهدت الأوساط الإسرائيلية اعتراضا على مضمون الاتفاق، خاصة في صفوف المعارضة السياسية، التي انتقدت بنود الاتفاق كذريعة.

معهد “دراسات الأمن القومي” الإسرائيلي يقول، إن الأخبار عن الاتفاق أثارت العديد من ردّات الفعل في أنه ينص على تقديم تنازلات كثيرة، والتي تساءلت عمّا إذا كانت حكومة تصريف الأعمال مخولة بالمصادقة عليه أصلا، حسبما نقل “معهد دراسات الأمن القومي” الإسرائيلي.

تقرير المعهد اعتبر أن التدقيق في بنود الاتفاق التي تم نشرها، يفضي إلى أن مضمونه، يضمن إيجابيات للطرفين معا، ويخلق بينهما وضع الفوز المتبادل.

حول ذلك يقول المعهد الإسرائيلي، “بالنسبة إلى لبنان، الذي يعاني جراء أزمة اقتصادية هي الأصعب في تاريخه، فإن الأرباح التي سيكسبها هي في الأساس أرباح اقتصادية، إذ ينص الاتفاق على أن الحفريات في حقل “قانا” ستبدأ مباشرة، بعد أن كانت الشركات تتفادى الاقتراب من هذه المنطقة“.

معلومات حول ثروات المتوسط

حقل “كاريش” للنفط والغاز الطبيعي، الذي ضمنته إسرائيل بموجب الاتفاق، يقع في المياه الإقليمية بحوض البحر الأبيض المتوسط، ويبعد 100 كلم عن السواحل الإسرائيلية، وحوالي 75 كلم عن ساحل حيفا، تقدر مساحة الحقل بنحو 150 كيلومترا مربعا، ووفقا لوزارة الطاقة اللبنانية، فإن الحقل يبعد نحو 4 كلم فقط عن حدودها مع إسرائيل، وتحديدا في البلوك رقم 8، و7 كلم عن البلوك رقم 9، وهما تابعان للمياه الإقليمية اللبنانية.

حجم الاحتياطات من الغاز الطبيعي في حقل “كاريش“، يُقدر بنحو 1.3 تريليون قدم مكعب، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أن حجم الاحتياطات يتراوح بين 1.5 تريليون إلى 2 تريليون قدم مكعب، بحسب تقرير لموقع قناة “الجزيرة“.

مجمل مساحة المياه الإقليمية اللبنانية يُقدر بنحو 22 ألف كيلومتر مربع، في حين تبلغ المساحة المتنازع عليها مع إسرائيل 854 كيلومترا مربعا.

يُقدّر حجم الاحتياطي البحري اللبناني من النفط بنحو 865 مليون برميل، وتقدر حصة لبنان من الغاز الطبيعي الذي يحتضنه البحر المتوسط بنحو 96 تريليون قدم مكعب.

أما كمية الغاز الموجودة في حقل “قانا“، فإنها تُقدر حاليا بحوالي 3 مليارات دولار، وقد يدر ذلك على لبنان ما بين 100 مليون دولار و200 مليون دولار في السنة الواحدة.

جذور أزمة حقل “كاريش“، تعود إلى عام 2011، بحسب التقرير، حين أودع لبنان لدى الأمم المتحدة إحداثيات حدوده البحرية الجنوبية، معتمدا الخط رقم 23، بينما اعتمدت إسرائيل الخط رقم واحد.

ومع وصول الاتفاق إلى مراحله النهائية، استُبعدت خيارات المواجهة العسكرية بين الجانبين، وفي حين أن الجانب الإسرائيلي ضمن مكاسبه الاقتصادية والأمنية من الاتفاق، فإن لبنان تنتظره تحديات عديدة داخلية وخارجية، للاستفادة من الاتفاق لا سيما على الصعيد الاقتصادي، كما سيكون للاتفاق العديد من الآثار والانعكاسات على البلدين وعلى منطقة شرق المتوسط، لا سيما فيا يخص التنافس على نقل الغاز نحو أوروبا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة