لطالما سعت إيران إلى التمركز في كافة القطاعات الرئيسية في سوريا منذ عام 2015، ورغم بذلها جهودا كبيرة في هذا المجال، فإن نجاحها الفعلي ومستوى سيطرتها يختلف ما بين قطاع وآخر، مع وجود محاولات إيرانية مستمرة ومتواصلة لزيادة التمركز في كل منها على حدة.

لم يقتصر دعم إيران على مدار السنوات الأخيرة للحكومة السورية على الجانب العسكري فقط؛ بل رافقه دعم مالي كبير أمد بعمرها عبر البوابة الاقتصادية، ومع تغيير الخريطة العسكرية، بدأت تتوالى المحاولات الإيرانية للتمركز في الاقتصاد السوري؛ سعيا لاسترداد الأموال التي أنفقتها طهران خلال العمليات العسكرية، وتمهيدا لمرحلة إعادة الإعمار، عبر بسط سيطرتها على مفاصل رئيسية لجني “غنائم الحرب”.

التغلغل الاقتصادي الإيراني لسوريا، شكل رديفا لعمليات التغلغل العسكرية والأمنية ومعها الاجتماعية أيضا، بحسب حديث الباحث سعد الشارع، لـ “الحل نت”. كما لم يكن التدخل الاقتصادي الإيراني موازٍ للتدخل العسكري، وذلك لعدة أسباب، الأول بسبب الوضع الاقتصادي العام لسوريا نتيجة حالة الحرب التي تشهدها منذ أكثر من 10 سنوات، ونتيجة فرض العقوبات والضغوطات الاقتصادية التي تشهدها عموم الجغرافية السورية، لم تكن فاتحة لشهية إيران لاستثمارات اقتصادية أو للسيطرة الاقتصادية على المنابع الاقتصادية في سوريا.

انطلقت الاستراتيجية الإيرانية في سوريا من مبدأ “المحافظة على حكومة دمشق” باعتبارها تحقق المصالح الإيرانية في سوريا بشكل شبه كامل؛ ولم تقتصر الأدوات الإيرانية التي لجأت إليها على دعم الحكومة فحسب، بل توسعت لتشمل محاولة بناء وجود طويل الأمد عبر المؤسسات السياسية والاقتصادية والفعاليات الاجتماعية والثقافية السورية، في محاولة منها لتغيير وجه سوريا وإنشاء بيئة اجتماعية متماهية مع المشروع الإيراني المتمثل في “ولاية الفقيه”.

استحواذ إيراني متنوع

هناك تنافس متواصل بين روسيا وإيران من أجل السيطرة على النفوذ في العاصمة دمشق، وأن طهران استطاعت في السنوات الأخيرة وعبر خطط بعيدة المدى، أن تكسب وجودا اقتصاديا وعقاريا في العديد من المناطق السورية، سواء في الجنوب أو في الشمال الشرقي وصولا إلى مدينة حلب، عن طريق إنشاء الجمعيات وعمليات التشييع وشراء العقارات التي تنشئ بيئة اجتماعية يجري فيها زرع القواعد العسكرية.

بناء على ذلك، تجري عمليات شراء العقارات والأراضي في محيط مدينة دمشق الجنوبي، وتمتد إلى المناطق والبلدات القريبة من مطارها الدولي، كمحيط بعض المزارات مثل مقام “السيدة زينب” في دمشق، ويعتبر أحد الأمثلة على التوسع العقاري لهذا المعلم الديني، الذي كان قبل الحرب السورية في عهدة عائلات سنية تخدم الحج إليه، ثم تحول بعدها إلى منطقة تحيط بها القواعد العسكرية الإيرانية والتابعة لـ”حزب الله”. تقارير صحفية تحدثت في الآونة الأخيرة عن موجة شراء قام بها “الحرس الثوري” الإيراني، لعديد من العقارات في محيط دمشق تمكنه من إحكام نفوذه في منطقتها الجنوبية الشرقية.

المشروع الإيراني في سوريا قام لإنجاح هذه الاستراتيجية على ثلاثة عوامل، الأول يقوم على الأدوات الخشنة، وهو ما تمثل في إنشاء عشرات الميليشيات المدعومة من “الحرس الثوري”، والثاني يستند إلى الأدوات الناعمة المتمثلة في الأدوات الثقافية والدينية والاجتماعية والأنشطة التعليمية، بينما الثالث وهو الداعم للسابقَين يتجسد في المجال الاقتصادي، الذي تحاول إيران جعله قطاعا داعما لأدواتها الناعمة والخشنة في آن معا.

الميزان التجاري الإيراني قد تأثر بشكل إيجابي بالعلاقات التجارية مع سوريا خلال فترة الحرب، وتحديدا فيما يتعلق بالصادرات، حيث ارتفعت قيمة التجارة الإيرانية من 361 مليون دولار في عام 2011 إلى حوالي 869 مليون دولار في 2017، وكان رئيس غرفة التجارة المشتركة بين إيران وسورية، كيوان كاشفي، قد كشف عن زيادة الصادرات الإيرانية بنسبة 90 بالمئة خلال الأشهر التسعة الأخيرة.

قيمة الصادرات الإيرانية خلال هذه الأشهر بلغت 160 مليون دولار إلى سوريا، بحسب تصريحات كاشفى لوكالة “إيسنا” الإيرانية، ووفقا لإحصاءات منظمة “تنمية التجارة” الإيرانية، فقد بلغت قيمة صادرات إيران غير النفطية إلى سورية في عام 2021، أكثر من 218 مليون دولار بزيادة بنسبة 53 بالمئة عن عما 2020.

سطوة اقتصادية

حول بدايات التوسع الاقتصادي لإيران في سوريا، يرى الدكتور فراس شعبو في حديثه لـ”الحل نت” بأن التواجد الإيراني في سوريا ليس بجديد على الأقل على الصعيد الثقافي والإيديولوجي والاقتصادي، حيث كان هناك أذرع إيرانية كثيرة منذ عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، لكنه تغلغل أكثر منذ تولي الرئيس بشار الأسد على الصعيدين والإيديولوجي والاقتصادي في بعض مناطق التشيع بشكل كبير منذ عام 2007 و2008.

قد يهمك: نفوذ اقتصادي إيراني في سوريا.. ما احتمالات فشله

إيران تمكنت خلال السنوات العشر الأخيرة، من أن يصبح لها حضور قوي في سوريا، سواء من الناحية الأمنية أو العسكرية أو السياسية أو الاقتصادي حتى، وفق شعبو، حيث تمكنت مؤخرا من افتتاح عدة جامعات، وأن يكون لها سطوة دينية اجتماعية، حيث بدأت تفرض الأنظمة الإيرانية على المستوى الاجتماعي، وأصبح لها اتباع بشكل كبير على الصعيد العسكري من خلال عمليات استغلال الحاجة المادية للسكان.

على الصعيد الاقتصادي اصطدمت إيران في عدة أمور، بحسب شعبو، أولا الرفض الدولي لوجود إيران وتدخلاتها في الجغرافية السورية، وهذا لم يسمح لها بالتغلغل على كامل مقدرات الشعب السوري، وأيضا وجود روسيا اللاعب الأساسي حد من إمكانية السيطرة الإيرانية على اقتصاد سوريا، حيث بدأ تقاسم الحصص وكانت الغلبة لروسيا، وتم ترك بعض القطاعات لإيران في مجال الاتصالات وشراء الأراضي وهناك ما يشاع عن وجود مصرف للتبادل التجاري بين البلدين.

إيران تحاول عبر هذا التغلغل أن تفعل في سوريا، كما فعلت في البحرين ولبنان والعراق واليمن، والمشكلة أن هذه الدول الأربع تعيش أسوء اقتصاد وأسوء معيشة، وفق شعبو، فبالتالي أينما وجدت إيران وجد الخراب الاجتماعي والاقتصادي، وبالنهاية تسعى لتحقيق غاياتها وهدفها الإيديولوجي بالدرجة الأولى، ولو على حساب أصحاب المنطقة.

الآن في هذه المرحلة بدأت إيران تبحث بشكل جدي، وتضع في نصب أعينها عدة ملفات اقتصادية للتغلغل بها بشكل كبير في سوريا، أولى هذه المواقع مجال الفوسفات واستخراجه من سوريا، وفق الشارع، لأهمية هذه المادة التي تحوي على نسبة عالية من اليورانيوم، وللسيطرة على الموانئ البحرية، كون الطريق البري الشيعي ينتهي عند البحر المتوسط عند المياه الدافئة، وكان هدف إيراني حتى ما قبل بداية الأحداث السورية. بعض السياقات الاقتصادية كالبنوك والاتصالات كان هناك مساعي إيرانية أيضا للتغلغل بها من جهة والسيطرة عليها من جهة أخرى. 

إيران حصلت على استثمارات استراتيجية في مناجم الفوسفات بخنيفيس، وعقود لبناء مصفاة نفط كبرى قرب مدينة حمص بطاقة تكريرية 140 ألف برميل يوميا، بحسب مراقبين اقتصاديين. الحكومة السورية خلال الأشهر الماضية، صدرت 97 ألف طن من الفوسفات الخام، بحسب معاون مدير شركة الفوسفات والمناجم بشير منصور، حيث أن الاحتياطي الجيولوجي من الفوسفات الرطب القابل للاستثمار في مناجم فوسفات الشرقية ببادية تدمر، يبلغ نحو مليار و800 مليون طن، وفي مناجم فوسفات خنيفيس نحو 150 مليون طن.

فاتورة تدفعها سوريا

  أن التسهيلات المقدمة من قبل سوريا لإيران، والتي تعتبر مفروضة على سوريا برأي الباحث سعد الشارع، بمثابة فاتورة تدفعها الأخيرة لإيران، نتيجة الدعم والمساعدات العسكرية الكبيرة التي قدمتها حكومة ملالي طهران لدمشق، ويمكن توصيف هذا التغلغل أنه جاء نتيجة عملية السيطرة في السياق العسكري والأمني، وهي حقيقة مطلوبة لإيران على صعيد السياسة والتنقل للإعلام الداخلي، وتبرر للشارع الايراني تحديدا عملية حضورها في الملف السوري، وأن هناك مكتسبات اقتصادية تجنبها لاحقا في هذه الدولة.

 من جهة أخرى ربما الفاتورة التي سوف تدفعها حكومة دمشق لإيران بما يخص المجال الاقتصادي ستكون كبيرة، بحسب مصادر خاصة لـ “الحل نت” وأن هناك ما يعرف بالقرض الائتماني الذي منحته إيران لدمشق، وإلى الآن تسدد الأخيرة جزء من هذا القرض في بعض المواقع الاقتصادية، ومن ضمنها البلوكات النفطية الموجودة في منطقة غرب الفرات، وتحديدا منطقة البوكمال حيث حصلت إيران عليها بموجب العقد الائتماني الذي يربط بين البلدين.

حول تبعات هذا التغلغل، يرى مراقبون أنه في الوقت الذي يسعى فيه الجانب الإيراني الذي يعمل بنفس طويل، وفق مخطط مدروس يجمع بين تعزيز الحضور الاقتصادي والاستثمار المالي، والمضي في التغيير الديموغرافي لمناطق عديدة لترسيخ الوجود العسكري، يلاحظ وجود سمه عامة صبغت التوجهات الاقتصادية الإيرانية في سوريا، وهي النجاح في إبرام الاتفاقيات مع الفشل في تحويلها إلى حقيقة، وذلك نتيجة ثلاثة عوامل رئيسة هي المنافسة الروسية، وتأثير العقوبات الغربية، والضعف الاقتصادي مع تدهور العملة في سوريا.

الجمارك الإيرانية، كشفت عن الصادرات الإيرانية إلى سورية عدا النفط، خلال العام الماضي والبالغة نحو 218 مليون دولار، في حين لم تزد قيمة المستوردات من سوريا، على 30 مليون دولار، بحسب تصريح المتحدث باسم الجمارك الايرانية، روح الله لطيفي. يقدر حجم التبادل التجاري بين إيران وسوريا بين 170 و180 مليون دولار، بحسب تقديرات إيرانية رسمية حديثة.

إيران حصلت على استثمارات متنوعة وسريعة الربح كرخصة خط الجوال الثالث.  كما دعمت طهران دمشق ماليا، عبر فتح خطوط ائتمانية بلغ إجمالي ما قدمته أكثر من 5.6 مليار دولار، لدعم العجز المالي في الموازنة المالية لسورية، وتجنب توقف المؤسسات عن العمل، كما ساهمت الشركات الإيرانية بشكل كبير في المعارض المقامة في دمشق لأغراض إعادة الإعمار، إذ بلغت القيمة المالية للعقود الموقعة بين شركة “مبنا غروب” الإيرانية في 2016 مع وزارة الكهرباء السورية حوالي تريليون ليرة سورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.